بيئة العمل مرآة القائد
يُشكل العمل جوهر الوجود البشري، ووسيلة البقاء والاستمرار، فمنذ فجر التاريخ ارتبط الإنسانُ به ارتباطًا وجوديًا، إذ لم يخلُ زمانٌ من جهدٍ يبذله في سبيل التكيّف مع بيئته أو لضمان بقائه على قيد الحياة.
ورغم أنّ الجهد العملي يُقابل عادة بالمكافأة المالية، إلا أنّ هذا العمل قد يُصبح في بعض الأحيان مصدرًا للألم والأسى بالنسبة للعامل أو الموظف، من تهديدات المخاطر الوظيفية إلى المنغصات النفسية التي تفرضها بيئة العمل عليه.
كما تُعد بيئة العمل، بما تحمله من ثقافة تنظيمية، ومنظومة قيم، وأساليب إدارية، وهيكلة تنظيمية، القلب النابض لأي مؤسسة ناجحة، والمرآة الصادقة التي تعكس ملامح القائد وفكره وسلوكه ورؤيته.
فهي ليست مجرد مكان يضم مكاتب ومبنى، وأنظمة ولوائح… بل تجسيد حيّ لروح القيادة وقناعاتها وطريقتها في التعامل مع التحديات وصناعة الفرص.
وحين نتأمل البيئات العملية في فضائنا المهني، غالبًا ما نُلاحظ بوضوح أن المؤسسات أو المنظمات التي تنبض بالحيوية والتكامل والإنجاز، تقف خلفها قيادة مدركة لقيمة الإنسان، ومؤمنة بالعمل بروح الفريق، بل ومُتبنيّة لثقافة البناء والبروز والتشجيع.
وفي المقابل، نجد أن المؤسسات أو المنظمات التي تسودها التنافر والجمود وكثرة الشكاوى، غالبًا ما تعاني من قيادة مرتبكة وغائبة عن روح المبادرة والمسؤولية. وهكذا تظل بيئة العمل هي المؤشر الأصدق على سلامة القيادة أو تعثّرها، مهما حاولت الشعارات البراقة أو المظاهر المصطنعة إخفاءَ الحقيقة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ”ما المقصود ببيئة المنظمة، ولماذا تمارس معظم منظمات الأعمال مهامها دون رغبة حقيقية في التطوير؟ ولماذا يسودها الخوف من التغيير والبطء في تحديث أساليبها وأنظمتها؟ ولماذا يغيب الإبداع والابتكار عن دور الموظفين؟ وما المعوقات التي تحول دون تنمية المناخ الإبداعي داخل المنظمات؟“
بيئة المنظمة هي كيان اجتماعي منظم يضم مجموعة من الأفراد يعملون معًا لتحقيق أهداف مشتركة، وهي متفرعة من نظام أكبر منه، وهو المجتمع، بما يحتويه من عادات وتقاليد وأنظمة اجتماعية تؤثر في سلوك الأفراد، وفي الوقت نفسه يتأثر بها الأفراد، وهو ما يمثل البيئة الخارجية للمنظمة، أو ”الإطار الذي تعمل أو توجد به المنظمة، أو يُقصد بها كل ما يحيط بالمنظمة من عوامل وظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وتقنية تُعتبر ذات تأثير على أداء وفعالية المنظمة“.
وحين تتحول بيئة المنظمة من حاضنةٍ للإبداع إلى ساحة للضغوط أو للتسلّط والاحتراق، يتغيّر وجه السلوك الإنساني فيها، وتبدأ ملامح التآكل النفسي والانكفاء المعنوي في الظهور. فهي، كما قلنا، ليست مجرد إطار تنظيمي أو هيكل إداري، بل مرآة تعكس القيم، وتضخ في عروق الموظفين إما طاقة بنّاءة أو سُمومًا صامتة تنهك الروح وتطفئ شرارة العطاء. وكلما اختلّ توازن هذه البيئة، سواء بسبب ضعف القيادة أو غياب العدالة أو انتشار التوتر والصراعات، زاد احتمال ظهور أنماط سلوكية سلبية، كالانسحاب أو العدوانية أو فقدان الحافز والانتماء… إلخ.
ومن أبرز العوامل المسببة لتدهور بيئة الأعمال: طبيعة الوظيفة، والمكانة الوظيفية، وعبء العمل، وظروفه المادية، وهي جميعًا عناصر تؤثر في الشعور بالانتماء والرضا، وهذا ما أشارت إليه الدراسات والبحوث العلمية.
إن المتتبع لواقع كثير من المنظمات العملية، أياً كان نوعها - منظمة ربحية أو غير ربحية - يلحظ تجاهل هذه المنظمات، عمدًا أو غير عمد، لما لبيئة العمل من تأثير على الإنتاجية، بل وعدم إدراك القائمين عليها بأن هناك ارتباطًا قويًا ووثيقًا بين بيئة العمل التي يعيش فيها العامل أو الموظف، وبين الإنتاجية والكفاءة. فنجد مثلًا أن غالبية هذه المنظمات لا تحاول تهيئة المناخ الصحي والملائم للعامل، بل لعلّ محاولة خلق بيئة عمل تكفل للموظفين الراحة والاطمئنان، تظل حلمًا بعيد المنال في كثير من منظمات الأعمال.
وقد يرجع السبب الرئيس، في رأيي، إلى القائمين على إدارة هذه المنظمات، فالملاحظ أن الأسلوب الإداري الذي تُدار به هذه المؤسسات أسلوبٌ غير عملي وغير واضح، وذلك إما لغياب الوعي الإداري لدى القائمين عليها، أو لافتقادهم المهارات الذاتية والفنية والقيادية.
ومن أبرز أسباب هذا الإخفاق:
1. عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب:
في بيئة العمل لا شيء يُفصح عن ملامح القائد أكثر من اختياراته. فحين ترى موظفًا كفؤًا مهمشًا، وآخر بلا أهلية أو كفاءة يتصدر المشهد، فاعلم أن الخلل لا يكمن في الأفراد بقدر ما يكمن فيمن اختارهم ووضعهم في تلك المواقع. فالقائد لا يُعرف بكثرة الكلام أو التصريحات، بل بحسن التدبير والتمكين، وأن يضع كل فرد في المكان الذي يليق به ويُحسن فيه العطاء. فإذا اختل هذا الميزان، اختنقت البيئة، وذبل الحماس، وساد الصمت في العقول والقلوب.
2. عدم تطوير القادة لأنفسهم:
فحين يجتمع اختيار الإنسان الخطأ للمنصب الخطأ مع الثقافة الإدارية الخاطئة، فإن المؤسسة، في نظري، لن تنهار فجأة، ولكنها ستدخل في حالة من الشيخوخة المبكرة، ويموت فيها الإبداع والابتكار، بل ويغدو العمل فيها مجرد ممارسة حركات يومية بلا روح. وهنا يتجلى المعنى الحقيقي لعبارة طالما آمنت بها وهي أن بيئة العمل مرآة القائد؛ فكل ما تراه من عدالة أو فوضى، من حماس أو فتور، من حراك أو خمول، ليس إلا انعكاسًا دقيقًا لما يجري في عقل القائد وقلبه، فإن تقدّم تقدّمت معه، وإن توقّف توقّف كلُّ شيء دون أن يشعر.
3. رفض الرأي الآخر والتمسك بالرأي الشخصي، أو بمبدأ ”إذا لم تكن معي فأنت ضدي“:
ففي بعض البيئات، وللأسف الشديد، لا يُطلب منك أن تكون مبدعًا، ولا حتى أن تكون مجتهدًا… بل كل ما يُطلب منك هو أن تكون نسخة أخرى من ثقافة القائد أو امتدادًا لصوته أو لاتجاهه أو تفكيره، لأن القائد هناك لا يقود بعقله، وإنما بأنانيته. فهو لا يحتمل في محيطه من يشير إلى غيره، ولو كان قوله وفعله وتقريره مغلوطًا.
وحين تصل البيئة إلى هذه المرحلة، فهي لا تعكس إلا قائدًا يرى في المرآة مملكته الخاصة، لا ساحة مشتركة للعمل، ولا مشروعًا جماعيًا يستحق المشاركة والاحترام.
تقول د. إيمان سعود أبو خضير الأكاديمية السعودية، والمستشارة الإدارية إن الإبداع عبارة عن مثلث متساوي الأضلاع: ”الطاقة الإبداعية، والعلم والمعرفة، والبيئة المحيطة بالفرد“ فالضلع الأول الطاقة الإبداعية وهي هبة ومنحة من الله تعالى تُخلق فطرياً لدى الإنسان، ونستطيع القول بأن أي إنسان لا يفتقر لوجه من أوجه الإبداع المتنوعة والمتعددة، أما الضلع الثاني فهو العلم والمعرفة، فكلما زاد علم الإنسان ومعرفته ساعده ذلك على أن يكون مبدعاً في مجاله، ومن ثم يأتي الضلع الثالث والأخير الذي يمثل القاعدة الأساسية لمثلث الإبداع، ويُعد الأكثر خطورة وتأثيرا في قضية الإبداع ألا وهو البيئة المحيطة بالفرد.
فالبيئة عامل أساسي ومهم في قضية الإبداع؛ فقد تكون محفزة ومفجرة للطاقات الإبداعية، وقد تكون مدمرة ومهدرة لتلك الطاقات بما تحويه من معوقات وعوامل كابحة للإبداع. ومما يبرهن على أهمية ودور البيئة المحيطة في تحفيز الطاقات الإبداعية الكامنة لدى الأفراد ما نلاحظه من تفوق العرب الذين هاجروا إلى الدول الغربية المتقدمة، للعمل في بيئة ملائمة، حيث أثبتوا أنهم قادرون على التفوق في شتى مجالات العلم والتقنية التي يحتكرها الغرب حاليًا، ومنهم على سبيل المثال: الدكتور أحمد زويل الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء.
ومع تقديري الكبير لرؤية د. إيمان أبو خضير في تشبيهها الإبداع بمثلث متساوي الأضلاع، واتفاقي معها بأن البيئة المحيطة تمثل ضلعًا بالغ الأهمية، بل كما قالت: ”القاعدة الأخطر“، إلا أنني أرى أن التفكير الإبداعي لا ينتظر دومًا بيئة مثالية كي يولد أو يتكون، بل أحيانًا يولد من رحم المعاناة، ويشتد عوده في البيئات الطاردة.
نعم، البيئة مهمة، ولكن نقطة التحول لا تصنعها البيئة فقط، بل تصنعها إرادة الفرد حين لا يستسلم لظروفه أو لبيئته المحيطة به.
ولعل الاستشهاد بالدكتور أحمد زويل مثال رائع، لكن لو توقف تفكيره الإبداعي على بيئةٍ صالحة فقط، لما غادر من الأصل، ولما حمل أفكاره معه.
صحيح أن البيئة تلعب دورًا هامًا، ولكن التفكير الإبداعي، في رأيي، يبدأ من داخل الإنسان، من العقل الذي يرفض أن يظل في الظّل، ويصمم على أن يكون نقطة التحول في واقعه أينما كان.
رغم تكرار الحديث عن الإبداع في أدبيات الإدارة وتخطيط المؤسسات، إلا أن الواقع يكشف عن فجوة كبيرة وواسعة بين التنظير والممارسة. ففي بيئات العمل، قد يُذكر الإبداع باعتباره قيمة ضرورية، لكن من الناحية العملية يُحاصر بشبكة معقدة من المعوقات، والتي أظن أن من أبرزها:
1. الاتجاه السلبي للمنظمة، ومن ذلك: التردد في الإقدام على ما هو جديد، وتغليب المخاطر، والشك في المستقبل.
2. رفض التجديد، والمحافظة على الوضع الراهن، والتمسك بما أُلف عليه.
3. اتباع الروتين المحدد ”النمطية“، إما بأمر من جهة، أو بدافع ذاتي. والروتين، بطبيعته، يُحد من الإبداع، ويُشجع على الخمول، ويُجمّد التفكير، وهذا ما سماه البعض بـ ”استعباد العادة“.
4. انعدام النموذج القيادي الملهم: لا يمكن أن تنتج مؤسسة الإبداع، وقائدها يُجيد المنع أكثر من الدعم، والتثبيط أكثر من التشجيع، ويتقن الرقابة الملتصقة أكثر من الرؤية. فالقائد هو الموجه الأول للبيئة، وما يزرعه فيها هو ما يُثمر لاحقًا في سلوك موظفيه.
نسمع كثيرًا عن ”الإبداع“ كشعار مرفوع، لكن من النادر أن نلمسه كممارسة واقعية. فالعقول المبدعة موجودة بيننا، ولكن ما ينقصنا غالبًا هو المناخ الذي يمنحها الثقة والحرية والدعم اللازم لتفكر وتُنجز.
وقد أظهرت التجربة العملية أن الإبداع لا يزدهر في بيئات يسودها الخوف، وتُكبّلها البيروقراطية، ويُحتكر فيها القرار لصوتٍ واحد. بل يولد حين يشعر الأفراد أن أفكارهم مسموعة، ومحاولاتهم مرحّب بها حتى إن لم تُكلل بالنجاح. فالفشل في البيئات الإبداعية لا يُعد نهاية المطاف، بل خطوة طبيعية نحو التحسين والتطوير.
لكن التحدي الأعمق يكمن في المفارقة بين القول والفعل، فكم من منظمة أو جهة أو شخصية ترفع شعارات التحفيز والتمكين والمبادرة… إلى آخره، بينما تمارس الإقصاء والتقليل من أي فكرة لا تصدر عنها أو لا تُوجَّه منها.
ومن أبرز التجليات الواقعية والمؤثرة في بناء هذا المناخ الإبداعي داخل المنظمات، كما أعتقد، ما يلي:
1. التشجيع والمساندة:
ففي داخل كل منظمة أو مؤسسة أو مجتمع، هناك أفكار نائمة وإمكانات تنتظر من يُوقظها.
ولكن هذه الإمكانات لا ترى النور إلا حين تجد بيئة تُشجّعها، وصوتًا يقول لصاحب الفكرة: ”جرّب، وحاول، فلن تُعاقب على المحاولة“.
2. ثقافة الاعتراف بالآخر:
لقد أظهرت التجارب الإدارية والاجتماعية أن الانغلاق على الذات يُولّد نزاعات، وأن تجاهل الآخر يُقصي الإبداع ويُقوّض الحوار.
بينما الاعتراف الواعي والمتزن بالآخر، يخلق بيئة من الثقة والتعاون، بل ويُطلق العنان للطاقات الكامنة في تنوّع الفكر وتعدّد الرؤى.
3. طريقة التعامل مع الأخطاء:
ففي البيئات الواعية، يُنظر إلى الخطأ على أنه فرصة للتعلم والنمو، ويُفصل بين الفعل الخاطئ والشخص المُخطئ.
أما في البيئات المتسلطة، فيُحوَّل الخطأ إلى تهمة، والمخطئ إلى كبش فداء. ولذلك تُدفن المبادرات، وتُخنق الروح الإبداعية.
وأخيرًا وليس آخرًا، تبقى الرسالة الأهم: أن نُدرك أن بيئة العمل ليست مجرد ميدان للمهام اليومية أو إطار تنظيمي مغلق فقط، بل هي انعكاس حيّ لروح القائد وفلسفته في القيادة. فهي تُظهر لنا ملامح أسلوبه، وتكشف عن مستوى وعيه، وقدرته على بناء مناخ يُحفّز الإبداع أو يُطفئه، يُنمي الأفراد أو يُهمّشهم.