آخر تحديث: 11 / 6 / 2025م - 4:07 ص

حسن الخلق والذوق العام: ضرورة حياتية لبناء مجتمع متحضر

غسان علي بوخمسين

يُعدّ الذوق والتهذيب واحترام الخصوصية، من أهم الركائز التي تقوم عليها المجتمعات المتحضرة، إذ لا يُقاس تحضر الشعوب فقط بما تحققه من تقدم مادي أو تقني، بل بمدى التزام أفرادها بقيم الاحترام والرقي في التعامل. الذوق والتهذيب يشمل سلوكيات مثل التحدث بأدب، احترام النظام في الأماكن العامة.

تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن السلوكيات المهذبة تقلل من التوتر الاجتماعي وتعزز الشعور بالانتماء. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا أن الأفراد الذين يمارسون سلوكيات مهذبة، مثل الامتناع عن الضوضاء في الأماكن العامة، يساهمون في تقليل مستويات القلق لدى الآخرين بنسبة تصل إلى 30%.

احترام الخصوصية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشعور بالأمان النفسي. ووفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Journal of Social and Personal Relationships (Petronio, 2021)، فإن انتهاك الخصوصية، مثل مشاركة معلومات شخصية دون إذن، يؤدي إلى تراجع الثقة بين الأفراد بنسبة 40%، مما يؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية. تؤكد هذه النتائج أهمية تعزيز ثقافة احترام الخصوصية في الأماكن العامة، خاصة في ظل الانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية

أهمية التربية على الذوق والتهذيب: منظور تربوي

التربية على الذوق والتهذيب تبدأ منذ الطفولة، حيث تلعب الأسرة والمدرسة دورًا محوريًا. وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد (2020)، فإن الأطفال الذين يتلقون تدريبًا مبكرًا على السلوكيات المهذبة يظهرون مستويات أعلى من التعاطف والمهارات الاجتماعية في مرحلة البلوغ. كما أن دمج تعليم الذوق العام في المناهج الدراسية يقلل من السلوكيات العدوانية بنسبة تصل إلى 20% (UNESCO, 2021).

المبادئ الإسلامية من القرآن والسنة في تعزيز الذوق والتهذيب

الإسلام يقدم إطارًا أخلاقيًا شاملًا، يعزز الذوق العام والتهذيب واحترام الخصوصية من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية. يدعو القرآن إلى حسن الخلق، كما في قوله تعالى: ”وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا“ (سورة البقرة: 83)، فهو يحث على التحدث بأدب واحترام. كما يؤكد على احترام الخصوصية في آيات مثل: ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا“ (سورة النور: 27)، فالآية تحث على طلب الإذن قبل التدخل في خصوصية الآخرين. في السنة، قال النبي ﷺ: ”ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء“، مشددًا على اجتناب الألفاظ البذيئة والسلوكيات المسيئة. كما دعا إلى النظافة، وهي جزء من الذوق العام، في قوله: ”النظافة من الإيمان“.

أمثلة سلبية لسلوكيات مخلة بالذوق العام

غياب الذوق العام يسبب توترًا اجتماعيًا ويخالف القيم الإسلامية والقوانين. على سبيل المثال، يقوم بعض الأشخاص بإلقاء النفايات في الشوارع، مما يناقض حديث النبي ﷺ: ”النظافة من الإيمان“، ويخالف لائحة الذوق العام السعودية. آخرون يتحدثون بصوت مرتفع عبر الهاتف في الأماكن العامة، مما يزعج المحيطين ويعكس قلة احترام للراحة العامة. كذلك، ينشر بعض الأفراد صورًا أو معلومات شخصية لآخرين على وسائل التواصل دون إذن، مخالفين آية: ”لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا“ (النور: 27). وقد يعمد البعض في حوارهم مع الآخرين، على سؤالهم أسئلة شخصية تخترق الخصوصية بشأن الزواج والصحة والأولاد والعمل والحالة الاقتصادية، مما يشكل خرقاً مزعجاً للخصوصية الواجب احترامها وصيانتها. ومن الأمثلة السيئة في السلوك لدى البعض، هو اعتبار أن القيمة الحقيقية للقوة، وأن الفرد لا بد له من أن يأخذ حقه بالقوة، حتى لو كان ذلك برفع الصوت أو استخدام العنف في سبيل الحصول على حقه، والأخطر من ذلك هو تحول هذه الفكرة الخاطئة إلى ثقافة مجتمعية عند بعض الجماعات، فيكون الفضاء العام في ذلك المجتمع مرتبكاً وغير مستقر. مثل هذه السلوكيات تزيد الصراعات وتقلل الأمان النفسي، مما يبرز الحاجة إلى التوعية والالتزام بتربية النشء على الخلق الحسن والالتزام بالقوانين.

الذوق والتهذيب في بيئة العمل: تأثيرات على الإنتاجية والصحة النفسية

في بيئة العمل، يلعب الذوق والتهذيب دورًا حاسمًا في تعزيز الأداء المهني. وفقًا لدراسة أجرتها جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM, 2022)، فإن بيئات العمل التي تشجع على التواصل المهذب والاحترام المتبادل تشهد زيادة في الإنتاجية بنسبة 25% مقارنة بالبيئات التي تسودها الفوضى أو عدم الاحترام. كما أن احترام خصوصية الموظفين، مثل عدم التدخل في شؤونهم الشخصية أو حماية بياناتهم، يعزز الأمان النفسي، وهو عامل أساسي في تقليل الإجهاد الوظيفي (Edmondson, 2019). تشير الأبحاث إلى أن السلوكيات غير المهذبة تزيد من مستويات الكورتيزول (هرمون الإجهاد)، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية والجسدية (Sapolsky, 2020).

تفعيل القوانين المنظمة للذوق العام: دور السياسات العامة

يعتبر تفعيل القوانين law enforcement المنظمة للسلوكيات العامة، أداة فعالة لتعزيز الذوق العام. على سبيل المثال، فرضت دول مثل سنغافورة غرامات مالية على سلوكيات مثل إلقاء النفايات أو التدخين في الأماكن العامة، مما أدى إلى تحسين مستوى النظافة والنظام بنسبة 35% خلال عقد واحد (NEA Singapore, 2023). في المملكة العربية السعودية، تُعد لائحة المحافظة على الذوق العام (2019) وقانون مكافحة التحرش (2018) نماذج بارزة. تنص اللائحة على احترام القيم والتقاليد في الأماكن العامة، وتحدد مخالفات مثل ارتداء ملابس غير محتشمة أو التحرش، مع غرامات تصل إلى 6000 ريال في حال التكرار. أما قانون مكافحة التحرش، فيعاقب على الأفعال ذات الطبيعة الجنسية بالسجن لمدة تصل إلى سنتين وغرامة 100,000 ريال، مع تشديد العقوبة في حالات التكرار أو التحرش بقاصر أو في أماكن العمل، ويتيح للضحايا المطالبة بالتعويض. هذه القوانين تعزز الأمان النفسي وتردع السلوكيات المخلة.

مقياس تحضر الشعوب: منظور سوسيولوجي

من منظور سوسيولوجي، يُعد الذوق العام مؤشرًا رئيسيًا لتحضر المجتمعات. وفقًا لعالم الاجتماع نوربرت إلياس (Elias, 1939)، فإن تطور المجتمعات يرتبط بقدرتها على تنظيم السلوكيات الفردية وتعزيز الاحترام المتبادل. المجتمعات التي تولي أهمية للذوق والتهذيب تكون أكثر استقرارًا وأقل عرضة للصراعات.

في الثقافة الغربية، تُعد مفاهيم مثل الخلق الحسن ”Good Manners“ ومدونة السلوك ”Code of Conduct“ أدوات فعالة لتنظيم السلوكيات. يشمل الخلق الحسن، مجموعة من السلوكيات المهذبة التي يُتوقع من الأفراد اتباعها عند التفاعل مع الآخرين. تشمل الأدب، الاحترام، اللباقة، التصرف اللائق، والمجاملة. بينما مدونة السلوك هي وثيقة رسمية تحدد المبادئ، القواعد، والقيم التي يجب أن يلتزم بها أعضاء منظمة أو مؤسسة أو مجتمع معين. تهدف إلى تنظيم السلوك المهني والأخلاقي للأفراد، وتوجيههم نحو التصرف الصحيح في مختلف المواقف.

تشير دراسة أجرتها جامعة أكسفورد (Bennett & Taylor, 2022) إلى أن تطبيق مدونات السلوك يقلل من التحرش الوظيفي بنسبة 50% ويزيد رضا الموظفين بنسبة 30%. أما مدونة الأخلاق code of ethics هي مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي توجه سلوك الأفراد والمؤسسات، مع التركيز على القيم الأساسية مثل النزاهة، العدالة، والمسؤولية. على عكس مدونة السلوك التي تركز على قواعد سلوكية محددة، فإن مدونة الأخلاق توفر إطارًا أوسع يساعد في اتخاذ القرارات الأخلاقية في المواقف المعقدة. وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة ”Business Ethics Quarterly“ (Schwartz, 2023)، فإن المؤسسات التي تتبنى مدونات أخلاق واضحة تشهد تحسنًا في ثقة الموظفين بنسبة 35% وانخفاضًا في السلوكيات غير الأخلاقية، مثل الكذب أو استغلال الموارد، بنسبة 28%. في السياق العام، يمكن أن تُطبق مدونات الأخلاق على مستوى المجتمع لتعزيز قيم مثل احترام الخصوصية والشفافية، مما يساهم في بناء ثقافة أخلاقية شاملة.

توصيات للتطبيق في السياق المعاصر:

1- تطوير المناهج التعليمية:

دمج تعليم مبادئ الذوق العام، التهذيب، والمبادئ الإسلامية في السلوك والآداب في المناهج الدراسية.

2- تبني مدونات السلوك والأخلاق:

تشجيع المؤسسات على اعتماد مدونة السلوك ”Code of Conduct“ ومدونة الأخلاق ”Code of Ethics“.

3. تعزيز السياسات العامة:

تطبيق قوانين مثل لائحة الذوق العام وقانون مكافحة التحرش، مع حملات توعية.

4. التوعية الإعلامية

: إطلاق حملات مستلهمة من القيم الإسلامية، بحيث يمكن الاستفادة من هذه المبادئ العامة والتفصيلية الواردة في تراثنا الإسلامي في القرآن والسنة. يمكن للمجتمعات العربية الاستفادة من هذه القيم الأصيلة، من خلال تطوير مدونات أخلاق محلية معاصرة، تركز على قيم الاحترام والمساواة، مع تعزيز التدريب لضمان فهمها وتطبيقها. إضافة إلى تعزيز التوعية بها في المدارس والمساجد، ودمجها في برامج التدريب المهني لتعزيز السلوكيات الإيجابية. على سبيل المثال، يمكن تطوير حملات توعية مستندة إلى هذه التعاليم لتشجيع احترام الخصوصية في وسائل التواصل الاجتماعي، أو تعزيز النظافة في الأماكن العامة، مما يساهم في بناء مجتمع يجمع بين القيم الدينية والتحضر الحديث لتعزيز الذوق والأخلاق.

إن الذوق العام، التهذيب، احترام الخصوصية، والالتزام بالمبادئ الإسلامية، مدونات الأخلاق، وقوانين مثل لائحة الذوق العام وقانون مكافحة التحرش، هي عناصر أساسية لتعزيز التماسك الاجتماعي والإنتاجية. الأدلة العلمية تؤكد أن هذه القيم تقلل من التوتر وتعزز الأمان النفسي. من خلال دمج التعاليم الإسلامية مع نماذج عالمية وقوانين محلية، يمكننا بناء مجتمعات أكثر تحضرًا.