التحول كما ترويه التفاصيل
اليوم وقد تحولت السعودية، إلى ورشة عمل كبيرة، امتلأت فيها الساحات بالخطط، والمنصات بالأرقام، تبقى التفاصيل الصغيرة هي المرآة الأصدق لأي تحوّل حقيقي. التحوّل لا يُصنع فقط في قاعات الاجتماعات أو على أوراق المخططين والمهندسين، بل يبدأ من حيث لا تلتفت الكاميرات: في البيت، في الشارع، في السلوك المتكرر، وفي القرار الصامت.
قيادتنا الحكيمة، تعلم علم اليقين، أن الرؤية ليست في المشاريع الضخمة، بقدر ما هي تراكمات سلوك. وأن المجتمع لا يُبنى دفعة واحدة، بل قطعة قطعة، على أيدي أناس يرون في كل ما يفعلونه قيمة مضافة، حتى لو لم يرهم أحد. عندها فقط، يتحوّل هذا الوعي إلى عادة، وتبدأ عجلة المستقبل بالدوران ودون أن يُطلق أحد صافرة البدء.
في كل اختيار نمارسه، هناك اقتصاد خفي يتشكل. من يستهلك بوعي، يُراكم قيمة. من يعمل بإتقان، يُحرّك عجلة دون أن يدري. المسؤولية هنا ليست شعارًا، بل وعي صامت ونمط حياة ترى فيه العلاقة بين ما تفعله الآن وما سيكون عليه الغد. الصدق في أداء العمل، الاحترام في الطريق، الالتزام في الموعد.. جميعها ليست فضائل شخصية فحسب، بل مقوّمات نهوض مجتمعي تحتاج إلى ممارسة يومية دون الحاجة إلى تذكير.
حين نُحرر الثقافة من كل ما هو مكتوب في الكتب، أو في الصحافة أو منصات التواصل الاجتماعي، وننزل بها إلى الشارع، تصبح كل لحظة ممارسة، هي ثقافة بذاتها. عندها فقط، يصبح الإبداع مسؤولية، والنظافة قيمة، والاحترام أسلوب حياة. وحين تُصبح الثقافة أرضية مشتركة، ينضبط المزاج العام، ويعلو الذوق، ويُثمر العقل، وتتحقق الأهداف والآمال.
حين يعود أبنائي إلى المنزل بعد ساعتين من انتهاء دوامهم، دون أن يشكوا تعبًا، أعلم أنهم كانوا هناك، في مواقعهم، يُعطون ما لا يُطلب منهم، دون انتظار شكر أو مكافأة. في تلك اللحظة، لا أراهم فقط كأفراد يؤدون دورهم الوظيفي، بل كمرايا صافية تعكس ملامح وطن يبنيه ناسه بالأفعال، لا بالنوايا.
هناك، في ذلك التعب الصامت، أشعر أننا بالفعل نعيش في بيئة تتحرك بهدوء، وتشق طريقها بثبات نحو أهدافها، لأن أبناءها قرروا ألا يكونوا من المتفرجين.