الرشد في الأعمال والمشاريع الاجتماعية
تخضع المشاريع الربحية، خاصة الكبيرة منها، لمراجعات متكررة للتوثق من الجدوى والرشد فيها وعادة ما تحصل هذه المراجعات في لحظات معينة من عمر المشروع «مرحلة الفكرة، ومرحلة التصميم ومرحلة التنفيذ» يشارك فيها مجموعات متنوعة التخصصات وفي الأغلب يكون التركيز فيها على الأضلاع الثلاثة التكلفة والجودة والوقت. في مشاريع القطاع الخاص هذه يكون صاحب المصلحة واضحا «صاحب المشروع» والممارسات المعيارية واضحة ويكون التركيز الأكثر فيها على الربحية بشكل شبه حصري.
لكن عندما نقارن ذلك بالمشاريع الاجتماعية، نرى بونا شاسعا. لا تخضع المشاريع والمبادرات الاجتماعية إلا للقليل من هذا الفحص والتحقق مع وجود عوائق كثيرة. كم منا تساءل ذات مرة لماذا نحتاج إلى مسجد هنا فيما المسجد الآخر لا يبعد إلا نصف كيلو منه، أو لماذا نفتتح هذا المشروع الاجتماعي بينما جيراننا في البلدة القريبة أسسوا مشروعا اجتماعيا مشابها منذ سنوات ونستطيع أن نستفيد من خدماته، ولماذا نحتاج إلى مشروع بهذه الضخامة بينما يكفينا مشروع بنصف المساحة «نصف التكلفة»، أو لماذا يتفاعل المجتمع مع مشاريع من نوع محدد بينما تعاني مشاريع أكثر أهمية من شح الموارد؟ هذه أسئلة تثار، لكن لا أحد وقف عندها وقفة جادة قبل الاستمرار في مشروعه.
إن الطبيعة المعقدة للمشاريع الاجتماعية يجعل من ضبطها وترشيدها بمستوى ضبط وترشيد المشاريع الربحية أمرا في غاية الصعوبة. فالفاعلون فيها «أصحاب المصلحة» عادة متعددون، لهم آراء مختلفة ولا توجد - في الغالب - آلية واضحة لاتخاذ القرارت يضمن مشاركة واسعة وممارسات موحدة تفضي إلى مستوى عال من الرشد. تكثر فيها المبادرات الشخصية والاستبداد بالرأي. ربما يظهر ذلك بشكل فاقع في إدارة الأعيان الوقفية. العامل الآخر الذي يغيب عنها - مقارنة بالمشاريع الربحية - هو وضوح معيار النجاح والفشل. فالمشاريع الربحية تكون مسطرتها المادية حادة واضحة فكل خيار يزيد التكلفة دون عائد خيار مرفوض، بينما تكون معايير المشاريع الاجتماعية في الغالب معايير غير مادية يصعب قياسها والتحقق من نتائجها ومقارنة البدائل فيها. حتى العمل الاجتماعي المؤسسي يعاني من عوامل الضعف هذه وإن كانت بدرجة أقل بسبب الحوكمة والشفافية المفروضة فيها.
أعتقد أن واجب الرعاية والأمانة يقتضي على القائمين على هذه المشاريع الاجتماعية رفع مستوى المراجعة ودراسة الخيارات وتوسيع المشاركة في القرار لتقليل أثر المشاريع والمبادرات الارتجالية التي تكلف المجتمع الكثير. من المعتاد إعداد دراسات الجدوى للمشاريع الربحية في القطاع الخاص للتأكد من جدوى هذه المشاريع والعائد منها. فلماذا لا تصبح هذه الممارسة ضرورية للمشاريع الاجتماعية؟ عندما نفكر في مسجد أو مدرسة أو مبنى خيري أو جمعية خيرية أو أي مشروع اجتماعي «ليس بالضرورة مشروع إنشائي» وإنما برنامج تعليمي مثلا، أن نجري دراسة اجتماعية تستوعب الجوانب المختلفة «من المستفيد منه وما الأثر المتوخى، وما مقدرا الحاجة له، وما المقدار الضروري منه، وما هي التكلفة المعقولة». الجميع يعرف أن أكثر مشاريعنا الخيرية، إن لم تكن كلها، تبدأ بموازنات مفتوحة لا يُعلم سقفها وهذا أقرب إلى السفه منه إلى الرشد. بل لقد حصل «وربما لا يزال» يحصل ذلك حتى في المؤسسات الرسمية كالجمعيات الخيرية.
في كثير من البلدان أصبحت ممارسة معتادة أن يسأل المتبرع ويقارن بين هذه المشاريع بناء على مدى إجابتها على هذه الأسئلة. لن نستطيع تقديم إجابات بدقة أرقام دراسات الجدوى الاقتصادية، لكن هذه الدراسات الاجتماعية تجبرنا على التفكير في الأسئلة الضرورية «التي عادة ما نمر عليها مرور الكرام» وتوثيق إجاباتنا لأن للمجتمع الداعم هذا الحق، حق المساءلة. هذا ليس ترفا وإنما ضرورة ولقد بدأ وعي المستفيدين يكبر وأسئلتهم تزداد ليتأكدوا أن كل ريال من ريالاتهم ينفق في محله وعلى الوجه الذي يرتضونه.
وفي حالات معينة قد لا يعكس المزاج الشعبي الحاجة الفعلية بسبب تصورات مسبقة أو قصور عن فهم الواقع. خذ مثالا الاستبانة التي أجرتها الأهلي المالية على موقعهم في منصة إكس وكان السؤال للجمهور كالتالي: أيش مجالات الوقف التي تفضل أن تشارك فيه؟. من عينة بلغت 88 مشاركا جاءت الإجابات كالتالي:
• 11,4% للتعليم
• 21,6% للصحة
• 20,5% لدعم العوائل المحتاجة
• 46,6% لرعاية الأيتام
فكما ترى بوضوح أن الرغبة الشعبية لا تتطابق مع الحاجة على أرض الواقع، وهنا يأتي دور الجهات الفاعلة في العمل الخيري في نشر الوعي وصناعة الرأي العام ليكون أقرب إلى فهم ومساندة الحاجة المجتمعية بعيدا عن التصورات المسبقة والعواطف الشخصية.
لقد ارتفعت معايير المشاركة الاجتماعية وارتفعت توقعات المجتمع من هذه المشاريع وعلى العاملين رفع مستوى ممارساتهم بما يتناسب وذلك.