آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

اقتصاد النوم في عالم لا ينام

ياسين آل خليل

نحن نعيش زمنا تحتدم فيه المنافسة وتختزل فيه القيمة بالإنجاز السريع وتتناقص فيه ساعات السكون، لهذا تحوّل النوم من حالة بيولوجية طبيعية إلى سلعة ثمينة. لم يعد يُنظر إليه كفعل تلقائي، بل كخدمة يحتاجها الناس بشدة، ويُقبلون على شرائها بأشكال متعددة. هذا التحول مهّد الطريق لولادة ما يُعرف اليوم بـ «اقتصاد النوم»، وهو قطاع حديث نسبيًا، لكنه ينمو بثبات لافت في عالم يبحث فيه الجميع عن قليل من الراحة.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن صناعة النوم تجاوزت حاجز 600 مليار دولار هذا العام، وفق تقديرات شركات أبحاث مثل ”فروست آند سوليفان“. هذا الرقم الضخم يعكس حجم الطلب المتزايد على حلول النوم، ويدفع كبرى الشركات العالمية للتنافس في هذا المجال. من شركات التكنولوجيا إلى العلامات الفندقية الفاخرة، الجميع يريد حصة من هذا السوق الذي لا يهدأ.

لم تعد الوسادة أو السرير وحدهما أدوات النوم. اليوم، تشمل هذه الصناعة طيفًا واسعًا من الابتكارات، مراتب ذكية تتفاعل مع حركة الجسد، أجهزة تراقب نبضات القلب وموجات الدماغ، تطبيقات للتهدئة الذهنية، عطور محفزة للنوم، بل وحتى غرف مصممة هندسيًا لتقليل الضوضاء والضوء. النوم لم يعد فعلًا عفويًا، بل طقسًا مدروسًا تُوظف فيه التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وحتى علم الأعصاب.

ليس من الغريب أن ينهار الإنسان أمام الوسادة متعبًا، ثم يستفيق مرهقًا كما لو لم ينم. ففي عالمٍ تحكمه الإشعارات، وتلاحقه رسائل البريد والتنبيهات حتى أثناء الليل، باتت نوعية النوم أهم من مدته. لقد دخلت التقنية غرفة النوم من أوسع أبوابها، لكنها في كثير من الأحيان تسرق النوم بدل أن تهبه. فكيف لمن يحضن هاتفه قبل أن ينام أن يستسلم بسهولة لسكينة الأحلام.

في بعض البيئات، بات النوم الكافي يُنظر إليه كدليل على قلة الطموح أو ضعف الالتزام. تُروَّج ثقافة العمل المتواصل وكأنها بطولة، ويُفاخر البعض بقدرتهم على العمل ب«أربع ساعات نوم فقط». هذه العقلية، وإن بدت براقة على السطح، يدفع الإنسان ثمنها باهظًا لاحقًا في صحته النفسية والجسدية. وهكذا، تحول النوم من حق طبيعي إلى ترف طبقي أو ثقافي ليس مُتاحا للجميع.

في خضم هذا الهوس بالحلول الخارجية، يغيب سؤال جوهري، هل يكفي شراء أدوات النوم لننام فعلًا..؟ الأبحاث تشير إلى أن نمط الحياة، والنظام الغذائي، والصحة النفسية، كلها تلعب دورًا حاسمًا في جودة النوم. أي أن الحل ليس تقنيًا فقط، بل سلوكي وعقلي بالدرجة الأولى. فلا يمكن لسرير ذكي أن يعوّض عقلًا مرهقًا أو قلبًا مثقلاً بالقلق والهموم.

مع اتساع رقعة هذا السوق، تبقى الحقيقة الأكثر إيلامًا، أننا نشتري النوم لأننا فقدنا القدرة على أن نرتاح بأنفسنا. فهل أصبحت الراحة رفاهية في زمن الإنتاجية المفرطة..؟ أم أن استعادة النوم تبدأ من إعادة النظر في نمط حياتنا، قبل أن نبحث عن حلول في الأسواق أو العيادات التخصصية. في النهاية، اقتصاد النوم ليس فقط مرآة لحاجتنا إلى الراحة، بل شهادة صامتة على عالم أنهكته السرعة.