أين رومانسية مؤنس طه حسين وإسلامه؟!
هناك «لحظات» أدبية قضاها طه حسين أيام الشباب، بين أدباء الغرب وقراء الشرق، منذ حصل على الدكتوراه الفرنسية، عاملاً على كسر طوق العزلة الثقافية، لتفعيل الصلة العقلية بين الشرق والغرب، فيتواصل الأدب العربي المعاصر بالآداب الأوروبية - الفرنسية خاصة - نقلاً وترجمة وتعريفاً بأدبائهم، دون تهالك على هذه الآداب بما يغني فيها الأديب هويته، ضارباً المثل بنفسه كما جاء في كتابه «لحظات» الصادر سنة 1942، فهو حين ينشر مقالاته التعريفية بأدباء فرنسا وشعرائها ومسرحييها - أنموذجاً بول فاليري - في الآحاد من سنة 1922، فإنه ينشر في أيام الأربعاء منها، فصولاً في الأدب العربي - أنموذجاً يزيد بن مفرغ الحميري - موازناً بين إحياء القديم وإثراء الحديث، وبين ما يقدم ويترجم عن الإغريقية القديمة والآداب الأوروبية الحديثة... متفاعلاً منذ كان أول أمره في باريس مع ما تصدره مطابعها من كتب، ومعجبا بما تعرضه الأوبرا من مسرحيات.
بهذا عبر في مقالته المنشورة في كتابه «ألوان» عن روي بلاس، وهي قصة تمثيلية شعرية من تأليف فيكتور هوغو، ملتذا بما يسمع، لأن الممثل نابغة في التمثيل، ولأن الشاعر نابغة في الشعر، صاعدا مع هوغو في سماء الجمال الفني، وهو يصور الصراعات السياسية بين الملكيين والجمهوريين، في أعقاب الثورة الفرنسية، حيث «تناصت» رواية طه حسين «المعذبون في الأرض» ورواية فيكتور هوغو «البؤساء» تناصاً فنياً في الموضوع البائس والأبطال البائسين، ما جعل بعض نقاد الأدب المقارن يقفون عند إعجاب طه بفيكتور إعجاباً بلغ حد التأثر، وهو ما ورثه د. مؤنس طه حسين من أبيه.
هذا الافتتان بهوغو هو ما جعل مؤنس، المنغمس في صميم الأدب الفرنسي، يخص روائي فرنسا وشاعرها بمقال مطول في كتابه المترجم «ملامح فرنسية» الصادر من مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري سنة 2006 بعنوان «فيكتور هوغو في الشرق». فهل هذا المقال ذو الصفة الأكاديمية، فصل منتزع من أطروحته الأكاديمية للدكتوراه في جامعة السوربون عن «الرومانسية الفرنسية والإسلام»؟ فالمعروف أنه قد صدر لمؤنس كتاب بهذا العنوان من دار المعارف ببيروت سنة 1962، لا دار المعارف بالقاهرة التي نشرت معظم كتب والده.
أما مقال مؤنس ذاك، فقد تمحور حول ديوان «الشرقيات» لهوغو «بعد خروجه من المطهر الثقافي إلى الهواء الطلق». ورغم عدم اعتبار مؤنس هذا الديوان تحفة فنية، فإنه ينبري للكتابة عنه بتحليل نقدي متقص لتجربة هوغو الشعرية، بوصفه مصرياً من الشرق العربي، محاولاً إبراز ما انطوى عليه وجدان هوغو المسحور بعالم الشرق، متأثراً بما كتبه الأديب الفرنسي فرانسوا رينيه دي شاتوبريان في رحلة حجه المسيحي «الطريق من باريس إلى القدس» بين سنتي 1806 و 1807. وقد ألهبت مخيلته «ألف ليلة وليلة» بترجمة أنطوان غالان المبكرة، وكذلك ما تناهى إلى مجتمع النخبة الباريسية من رحلات الفرنسيين إلى الشرق العربي، وصور رساميهم «أوجين ديلاكروا» بعد الحملة البونابرتية على مصر سنة 1798 التي تركت آثارها في ثقافة فيكتور هوغو وخياله الخصب، حيث أصبح الشرق ملهماً له ولشاتوبريان قبله وجيرار دي نرفال بعده في كتابه الضخم المثير «رحلة إلى الشرق». لقد خصه مؤنس بمقال في أواخر كتابه عنونه بـ «جيرار دي نرفال وليالي رمضان»، إذ حط الأخير رحاله المكتظة بكتب وقواميس في إسطنبول، مستطيباً قضاء الشهر الإسلامي المتألق فيها بصلوات الأتراك والحافل بأطباق موائدهم الشهية، منبهراً بمنظر مغيب الشمس وراء المساجد، هذه التي بهرت قبله فيكتور هوغو بمعمارها الهندسي البديع في الأندلس، معتبراً إسبانيا التي زارها من الشرق، وكان قد التحق بوالده الضابط في جيش جوزيف بونابرت بمدريد، بعدما تعلم هوغو اللغة الإسبانية منذ صغره واطلع شاباً على أدبها.
هذا ويذهب مؤنس طه حسين أنه قبل حرب البلقان، كان هوغو يرى في اليونان جغرافيا التوازن الأوروبي مع الشرق العربي والإسلامي، عندما مال ميزان القوى لصالح القسطنطينية العثمانية «فإذا القارة الأوروبية تميل كلها إلى الشرق»، حسبما ترجم مؤنس مقدمة هوغو لديوانه «الشرقيات». وقد تأثر بثقافة دوائر الاستشراق في بلده، منذ أسس سيلفستر دي ساسي مدرسة اللغات الشرقية بباريس سنة 1824، متصوراً - أي مؤنس - إمكانية قراءة فيكتور هوغو للقرآن الكريم وفق ذاك.
هذا الموضوع الجدلي هو ما اهتم به القنصل الفرنسي بجدة لويس ميلان - مؤخراً - بعدما لاحظ تكرار الذكر للقرآن الكريم والنبي محمد عشرات المرات أثناء قراءته ديوان «أسطورة القرون» لفيكتور هوغو - كما ذكر ذلك في حديث صحفي حول كتابه «فيكتور هوغو والإسلام».
لهذا كان بحثي دؤوباً عن كتاب د. مؤنس طه حسين آنف الذكر «الرومانسية الفرنسية والإسلام» بحثاً دؤوباً للقراءة المقارنة بين ما كتبه، وما توصل إليه لويس ميلان من نتائج يبدو أنها متشابهة... كما أن أطروحة مؤنس هذه لا تبتعد عما دعا إليه والده من قبل، في التثاقف العربي الفرنسي بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي المسيحي... إلا أن بحثي عن كتاب مؤنس المفقود لم يُسفر عن نتيجة، متسائلاً بمرارة عن السبب وراء إهمال ما كتبه ابن عميد الأدب العربي، الذي تنبئ قراءة كتابه «ملامح رومانسية» عن تملكه أطروحة فكرية وتمتعه بذكاء نقدي، فلا رسالته لنيل الدكتوراه ترجمت ونشرت، ولا كذلك مذكراته ذات الثمانمئة صفحة عن أبيه، التي وعدت وزارة الثقافة المصرية بترجمتها ونشرها، ما عدا مقدمته لها التي نشرتها له مجلة «وجهات نظر» قبل وفاته بقليل في عددها الستين يناير 2004 بعنوان «أبي طه حسين»، مؤكداً فيها «كان من المأمول أن يصبح والده مجرد قارئ للقرآن الكريم، لكن سرعان ما أظهر ذكاء فائقاً وخصالاً ممتازة، وكذا استطاع أن يفلت من مصيره».
هل كان مؤنس يقصد بهذا الإفلات من تأثير والدته سوزان، المتشبثة بفرنسيتها حتى آخر رمق في حياتها الطويلة مع والده، كما تجلت في إبداعها السردي الممتع «معك» وهي تروي قصة حياتها مع طه حسين، الذي أحبها وفتن بها أيما افتتان، بل كانت النور الذي أبصر به مجريات حياته، لكن بمنظاره هو، فقد أخذت قراءته اليومية للقرآن بمجامع قلبه المفعم وفكره النير وأدبه البليغ.
أختم بأملي المعقود على من يرجى منه، بعث ما تركه مؤنس طه حسين، من عناكب الإهمال ووحشة النسيان، فلا أجد سوى من كتب عن أبيه أروع ما كتب... أعني زميل عمله مترجمين في منظمة اليونسكو بباريس، صديقه الباحث الجاد عبد الرشيد الصادق محمودي.