الصندوق الأسود للذكاء الاصطناعي: غواية المعرفة وغموض المصير
كل شيء يبدأ بالدهشة. وفي عصر الذكاء الاصطناعي، تتجلى هذه الدهشة لا كسحر أو شعوذة، بل كثمرة عقل بشري أنتج أدوات تتفوق عليه أحيانًا في سرعة الإدراك، دقة المعالجة، واتساع الذاكرة. غير أن هذا العقل ذاته لم ينجُ من ردّات الفعل أمام ما يعجز عن فهمه أو التحكم به. هكذا، تتسلل المخاوف إلى الأذهان كما يتسلل الظل عند الغروب، مؤذنًا بتبدّل لا يُدرَك تمامًا.
في قلب هذا التحول، يبرز مفهوم ”الصندوق الأسود“، استعارةً لآليات اتخاذ القرار في الأنظمة الذكية، مثل الشبكات العصبية العميقة، التي تعتمد على طبقات معقدة لتحليل البيانات، لكنها تظل غامضة حتى لمصمميها. ماذا يعني أن يُرفض قرض بنكي، أو يُشخّص مريض، أو يُقيّم طالب، بناءً على قرار لا يملك أحد تفسيرًا واضحًا لمنطقه؟ إنها لحظة تتقاطع فيها روعة الإبداع التقني مع هشاشة الإنسان. فعلى سبيل المثال، أدت خوارزمية ”ProPublica“ في الولايات المتحدة إلى تصنيفات متحيزة ضد الأقليات، لأن البيانات التي تدربت عليها عكست تحيزات القضاء نفسه.
الذكاء الاصطناعي لا ينمو في فراغ؛ بل يتغذى على بياناتنا، تاريخنا، وخياراتنا. وإذا كان الإنسان قد اختبر عبر العصور معنى الانحياز، فإن الآلة قد ترث هذا الانحياز دون أن تدرك أثره. كشفت دراسة عام 2018 أن خوارزمية توظيف طورتها شركة أمازون استبعدت النساء من وظائف تقنية، لأنها تدربت على سير ذاتية يهيمن عليها الذكور، ففضّلت مصطلحات مثل ”قائد“ و”مبرمج تنفيذي“.
هكذا تصبح الآلة مرآة مكبّرة لتحيزاتنا، لا ابتكارًا لحياد جديد. فهل الذكاء الاصطناعي كائن غريب، أم مرآة شفافة تعكس دواخلنا؟ ألا يعيد إنتاج أفكارنا اللاواعية، مصقولةً ومنظمة، لكنها خالية من تردد الضمير وإنسانية التراحم؟ إننا لا نخشى الذكاء الاصطناعي لأنه ذكي، بل لأننا لا نفهم بوصلته، ولا نعلم إن كان يحاكي أعظم ما فينا أم يعيد إنتاج أسوأ ما نخفيه. ففي دراسة نُشرت عام 2019 في Science, قللت خوارزمية لتخصيص الرعاية الصحية من فرص علاج المرضى السود استنادًا إلى بيانات تأمينية متحيزة.
في المجال التربوي، تتفاقم الأسئلة. هل يمكن لخوارزمية أن تحل محل المعلم؟ ليس في تقديم المحتوى فحسب، بل في استيعاب نفسية الطالب، واحتضان فضوله، وتحفيز شغفه؟ تخيّل طالبة تدعى ليلى، تجلس في فصل افتراضي، تتلقى دروسًا من نظام ذكي يحلل إجاباتها بدقة، لكنه لا يرى القلق في عينيها عندما تتعثر، ولا يلتقط صمتها المتوتر.
الإنسانية في التعليم تكمن في لحظات التفاعل غير المحسوبة، في قراءة الحيرة وفهم الطموح. وحتى اليوم، تبقى الأنظمة الذكية محدودة في التقاط السياقات العاطفية، مما يجعل دور المعلم لا يُعوّض بالكامل.
وماذا عن المسؤولية الأخلاقية؟ إذا أخطأت الآلة، فمن نُحاسب؟ في عام 2020، أدت خوارزمية تقييم الطلاب في المملكة المتحدة إلى نتائج مجحفة، اعتمدت على بيانات تاريخية خفضت درجات طلاب من مناطق محرومة، دون مراعاة لجهودهم الفردية. من المسؤول حينئذ؟ المبرمج؟ الشركة؟ أم ”الصندوق الأسود“ الذي لا يملك تفسيرًا؟ كلما زاد تعقيد النظام، زادت صعوبة تحديد المسؤول. وهنا يكمن الخطر: أن نتنصل من المسؤولية بحجة أننا ”لا نعلم كيف قرّر“.
لكن الغموض ليس قدرًا محتومًا. تظهر مبادرات مثل ”الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير“ «XAI»، لتطوير أنظمة توضح منطق قراراتها. أدوات مثل LIME تتيح فهم كيفية وزن البيانات في القرارات، بينما يفرض قانون الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي على الشركات الإفصاح عن آليات خوارزمياتها، واضعًا معايير للشفافية والمساءلة. إن تطوير أدوات الفهم بقدر أدوات القوة هو السبيل لضمان أن تظل التقنية في خدمة الإنسان، لا سيّدًا عليه.
ماذا لو لم يكن الصندوق أسودًا لأنه غامض، بل لأنه يسلط الضوء على مناطق معتمة في وعينا البشري؟ ماذا لو كانت عتمته انعكاسًا لعتمتنا؟
في لهاثنا خلف التقنية، قد نكون ركّزنا على أجوبتها، ونسينا أن نصغي لأسئلتها. فالأدوات التي لا نضبطها قد تنقلب علينا. لكن الأمل يكمن في يقظتنا، في قدرتنا على مراقبة الذكاء الاصطناعي وتطويره بحذر، مع الحفاظ على جذور إنسانيتنا. وقد أثبتت احتجاجات الطلاب في بريطانيا، التي أفضت إلى إلغاء الخوارزمية الجائرة، أن الصوت البشري ما زال قادرًا على تعديل مسار الآلة.
الصندوق الأسود ليس نهاية الذكاء، بل بدايته الحقيقية. هو دعوة للفهم لا للسيطرة، للتأمل لا للرفض. إنه مرآة نطل منها على أنفسنا قبل أن نحكم على ما صنعناه. فلنتقدّم بحذر، ولنحوّل هذا الغموض إلى فرصة لنكون أفضل، لا مجرد ظلال لآلاتنا.
فالعتمة لا تميّز بين من يهرب خوفًا ومن يقف حذرًا. النور وحده يصنع الفرق، وهو لا يولد من الجهل، بل من معرفة واعية، جريئة، ومُتأهبة للمستقبل.