آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

ماقيمة الكاتب إذا لم يُغضب قراءه؟

ليلى الزاهر *

للكاتب حريّة انتقائية وانتقاليّة ينتقي ألفاظه وموضوعاته بمقاييس خاصة تُشير إليه؛ ويعرفه النّاس بأسلوبه، بلغوياته، بطريقته في التّحليل والاستنباط بشفرته الخاصة. وينتقل من مرحلة عميقة إلى مرحلة أعمق في الطرح والبحث، لا يبقى على وتيرةٍ واحدة في الطرح، ويتراوح بين مسالك مُتعددة.

فالمعاني يطرقها الجميع والمواضيع متناثرة في كلّ مكان في الشارع، في المدرسة، وفي السوق، في مجالس السّمر في كلّ مكان كما يقول الجاحظ:

«المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ، والبدويّ والقرويّ، والمدنيّ، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج» يستوي في ذلك النظم والنثر.

والفيصل هو طريقة تناول الحرف وإعطائه مفهوميّة جديدة تجذب القارئ، فينهض بحداثة تُبْقي الجميع تحته أنقاض الهَرَم.

ومن يمسك زِمام القلم لا بد أن يواجه النّاس بشجاعة أدبيّة، وقلب لا يهاب النقد كساعٍ إلى الهيجاء «بألف سلاح».

قد لا يكون الكاتب مُختصّا بشؤون الأسرة، ولا يحمل شهادة في العلوم الاجتماعية والشريعة، لكن الخبرة صنعته، ومرّ بتجارب كثيرة في التربية والتعليم، لم تكن تنظيرا وإنما كانت أحداثا صنعت خبرةً قوامها أرض الواقع، وليست خلف مكتب يتكئ صاحبه على صياغة نظريات فحسب.

ولم يطرح رأيه جُزافًا، بل أنّ بعض آراء الحكماء يُعتدّ بها، لله درّه المتنبي عندما قدّم الرأي على الشجاعة إذ يقول:

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ
هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ حُرّةٍ
بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ

يؤمن الكاتب بالرأي المُخالف لرأيه فيأخذه بعين الاعتبار إذا لمس فيه وبصاحبه ثراءً فكريّا راقيا يمكن أن يُضيف له، ويطوره يُقوّم ما اعوجّ من رأي، ويُثني على ما ارتضاه منه «فيبقى العود ما بقي اللحاء» غير أنه لا يؤمن برأي من يمرّ بمحاذاته، فيرميه بشرره وبفهم قاصر، لا يتعدّى فهمه قراءة العنوان ولم يفهم حكاية بين السطور.

يقول ميخائيل نعيمة:

«هي الدّرر لا تكون كاملة ما لم يتخللها قليل من النّقد وقليل من الإطراء وقليل من الفخر وقليل من الحكم سواء تآلفت معانيها أم تنافرت»

في ميزان الفكر يظهر الاختلاف لتُسوّد الأقلامُ الصفحات وتخرج الحروف بثَوْبٍ مُهَلْهَل أو بثَوبِ قَشِيب بحسب البواطن التي تفضحها الأوراق.

وفي طريق الأقلام المتناثرة بجانب الطريق سوف يلتفت الكاتب إلى أمرين مهمين وهما:

الأمر الأول:

لا بد من الاختلاف والتّصادم مع آراء البعض من النّاس، قس على ذلك الاختلاف القائم بين بعضنا البعض في هذه المعمورة.

يقول الكاتب طه حسين:

ما قيمة الكاتب إذا لم يُغضب قراءه؟

سواء كان مقصد عميد الأدب العربي من مفهوم الغضب «الغضب المقصود» مثل غضب القارئ لنهاية رواية قتل فيها الكاتب بطل روايته فخلّف حسرة في قلوب القرّاء. أم أثار الغضب بإثارة الجدل بفكرة أو بعنوان أو بقضيّة يناقشها الكاتب باتجاه مختلف مما يُسبب للمتلقي صدمة كبيرة لأن الكاتب أبحر عكس تيار القارئ أو كشف أوراقه المُخبأة فتعرّى أمام نفسه.

فالقيمة الحقيقية للكاتب تكمن في تصحيح مسار القارئ الفكري وتقويم مبادئه الخاطئة والتّشكيك في مقتنياته لإعادة النّظر وتحديثها للأفضل وهذا هو لبّ الفائدة من الاطلاع والقراءة.

لذلك فإنّ كتابة فكرة خارج الصندوق وتفكيك جزئيات الموضوع الذي يعتبره الناس من المُسلّمات تُعدّ مهارة من الكاتب ولا تقلب عليه الطاولة.

الأمر الثاني:

يعلم الكاتب أنّه مهما بالغ في سبر أغوار المعاني لم يصل بعد لختام النهاية، وما زال في جعبته أشياء كثيرة ليظهرها لقرائه، إنّه يتعلّم كلّ يوم درسا من دروس القوة الكلاميّة، حتى يأتي عليه يوم ويصبح القلم في يده مثل السيف البتّار كما يقول الشاعر:

ولضربة من كاتب ببنانه
أمضى وأقطع من دقيق حسام

قوم إذا عزموا عداوة حاسد
سفكوا الدما بأسنة الأقلام

وفي نهاية المطاف..

يعلم الكاتب الحقيقي أنه مهما كتب يأتي عليه وقت تُصبح الكتابة عنده أصعب من نقل الصّخور فيُصاب بداء «قَفْلة الكاتب» وللشاعر الفرزدق عبارة تؤكد هذا المعنى حينما يقول:

«يأتي عليّ وقتٌ وقول بيت من الشعر أشد عليّ من خلع ضرسي»

لذلك يجب عليه ألا يعدم الوسيلة للكتابة ويختار الموضوع المناسب بدقة ولا يلتفت إلّا لمن يراه أهلًا لشحن طاقته.

أستودعكم الله فربما غبتُ يوما أو شهرا وما أظنني أفعل ذلك.

نلتقيكم غدا بإذن الله تعالى.