آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

عليكم بطلبِ العِلم! وقفة لغوية دلالية

الشيخ سمير آل ربح

قال الإمام محمد بن علي الجواد : ”عليكم بطلبِ العِلم؛ فإن طلبَه فريضةٌ، والبحث عنه نافلة، وهو صِلةٌ بين الإخوان، ودليل على المُرُوَّة، وتحفة في المجالس، وصاحب في السفر، وأنس في الغربة“ ﴿بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، 75/ 80 .

مع قصر عمر الإمام محمد بن علي الجواد ، إذ لم يتجاوز الخمسة وعشرين سنة «195 - 220 هـ»، إلا أنه ترك تراثًا كبيرًا من السيرة الوضَّاءة ومن محافل العلم ومن الأقوال المأثورة المليئة بالحكم والمعارف، وهي مبثوثة في كتب الحديث والسِّيَر. ومن الواجب علينا - نحن أتباعه - أن نقرأ هذه الحِكم ونحفظها ونفهمها ونشرحها ونطبِّقها. إننا نجد غفلةً إلى حدٍّ كبير عن هذه الكنوز المحمدية، فلا زالت مخفية في بطون الكتب؛ فمتى تسرح بها عقولنا وتدور بها أفكارنا وتتجسد بها سلوكنا. إن الكُتَّاب والمتحدثين والخطباء عليهم مسؤولية خاصة في هذا الجانب، إضافة إلى مسؤولية كل واحد منَّا ذكرًا كان أم أنثى.

ونحن في مناسبة ذكرى استشهاده نعرض إلى واحد من أقواله بشيء من الشرح اللغوي والبيان البلاغي، لعله يضيء جانبًا من جوانب حياتنا. نتناول القول الآنف الذكر في عناوين:

- عليكم بطلبِ العِلم

«عليكم»: اسم فعل أمر، أي الزموا، نحو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، فهو من صيغ الأمر. وهو هنا إما يفيد وجوب طلب العلم إذا كان مقدمة لأداء الواجبات كتعلُّم أحكام العبادات والمعاملات التي هي محطُّ الابتلاء، أو استحبابه، وهو أدنى درجاته، وهو ما يوضِّحه كلام الإمام التالي: ”فإن طلبه فريضة، والبحث عنه نافلة“. الفاء تفريع على ما سبق، بيان للعلة والسبب؛ فإن طلب العلم واجب شرعًا وعقلًا. عن رسول الله ﷺ: ”طَلَبُ العِلم فَريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ، أَلَا إِنَّ اللهَ يحب بُغاةَ العِلمِ“ ﴿الكافي، الشيخ الكليني، 1/ 30 . و”على كل مسلم“ يشمل الرجل والمرأة، وإنما ذُكِّر اللفظ تغليبًا، نحو خطاب المؤمنين في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿الحجرات: 6»، فإنه شامل للمؤمنين والمؤمنات. وفي قوله «بطلب العلم» إشارة إلى أن الحصول على العلم لا يأتي جزافًا، ولا صدفة، ولا إلهامًا إلا في حالات نادرة؛ فإن العلم بالتعلُّم، لا بالكسل وفتور الهمة.

- صِلة بين الإخوان

ثم يُعدِّد الإمام فوائد العلم، فقال: ”وهو صِلة بين الإخوان“. الضمير «هو» يعود على العلم. «صِلة» مصدر وصل: وَصَلْتَ الشيء وَصْلًا وصِلةً، والوَصْلُ ضِدُّ الهِجْران. وعن ابن جني: صِلة وصُلة، بكسر الصاد وبضمها. ﴿لسان العرب، ابن منظور، وص ل ؛ فالوصل «والصِّلة» ضد القطيعة والهجران. و«الإخوان» واحده أخ، يجمع على إخوة وعلى إخوان، بكسر الهمزة فيهما وهو الشائع، وضمهما: أُخوة وأُخوان. لكنهما جاءا في القرآن الكريم بكسر الهمزة: قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى? إِخْوَتِكَ ﴿سورة يوسف: 5. ينظر أيضًا: سورة النساء: 11، و 176، وسورة يوسف: 7 و 58 و 100 . وقال سبحانه: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ ﴿سورة الأحزاب: 55. يُنظر أيضًا: سورة النور: 31 و 61، وسورة الأحزاب: 55 . والمراد من الإخوان في قول الإمام هو إخوان الإيمان. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴿سورة الحجرات: 10 ، نعم يشمل - بعمومه - إخوان النسب أيضًا. وأصل وضع «أخ» هو أخ النسب، لكنه عُدِّي إلى الصديق والصاحب في الاستعمال العرفي، وفي الاستعمال الديني عُدِّي إلى رابطة الإيمان. قال رسول الله ﷺ: ”رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمُّك“ ﴿عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 267 . والحاصل من قوله : ”وهو صلة بين الإخوان“ أن العلم هو وسيلة تواصل بين الإخوان. الجملة خبرية لكنها تتضمن معنى الإنشائية، أي ينبغي أن يكون العلمُ سببًا للتواصل بين المؤمنين عوضًا عن الكلام الفارغ أو العادي أو حديث الفكاهة والمزاح، ونحو ذلك. ويتحقق طلب العلم بالمباحثة والمذاكرة والدرس والتدريس والكتابة والتأليف، ومن المناسب هنا أن يشترك الأصحاب في مشاريع علمية وبحثية فيخوضون معًا التجارب ويؤلِّفون الكتب وينجزون الموسوعات.

- دليل على المُرُوَّة

«المُرُوة»: أصلها المُروءة، قلبت الهمزة واوًا، ثم أُدغمت، فأصبحت «المُرُوَّة»، وهي كمال الرُّجوليَّة، مصدَرٌ مِن: مَرُؤَ يَمرُؤُ مُروءةً، فهو مَريءٌ، أي: بَيِّنُ المـُروءةِ. وتمرَّأَ فُلانٌ: تكَلَّف المـُروءةَ. وقيل: صار ذا مُروءةٍ، وفلانٌ تمَرَّأ بالقومِ: أي: سعى أن يوصَفَ بالمُروءةِ بإكرامِهم، أو بنَقصِهم وعيبِهم. ﴿تاج العروس، الزبيدي، 1/ 427 ؛ وعليه فالمروءة آدابٌ نفسانيَّةٌ تحمِلُ مُراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند محاسِن الأخلاق وجميل العادات. وممَّا يدل على المروءة طلبُ العلم؛ فإنه نوع من الكمال، ومن يسير في ركابه تُهذَّب أخلاقُه وتحسُن أفعالُه. عن الإمام الباقر : ”الكمال كل الكمال التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة“. ﴿بحار الأنوار، 75/ 172 ، والتفقه في الدِّين هو أعلى مراتب العلم.

- تحفة في المجالس

تُحْفَة بضم التاء وسكون الحاء، وتُحَفة بضم التاء وفتح الحاء كهُمَزة. قال الأزهري: ”أَصلُها وُحفَة، فقُلِبت الوَاوُ تَاءً، كما في تُخَمَة وتُكَأة“ ﴿تهذيب اللغة، الأزهري، ت ح ف ، وتُجمع على تُحْفات وتُحَف. وأصل معناها هو طرفة الفاكهة، ثم تُستعمل في غير الفاكهة من الألطاف. ﴿مجمع بحار الأنوار، محمد طاهر الفتني، 1/ 254 ؛ ومن هنا فإنها عُرِّفت بـ ”طُرفة أو شيء مستحدث عجيب له قيمة جماليّة أو أثريَّة أو فنِّيَّة“ ﴿معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، 1/ 286، ت ح ف . و«المجالس» جمع مفرده «مَجْلِس»، وهو موضع الجلوس. اسم مكان على وزن «مَفْعِل»، بكسر العين لأن مضارعه مكسور العين صحيح الآخر «يَجْلِسُ». وبالعودة إلى كلام الإمام فإن واحدًا من فوائد العلم أن يكون تُحفة في المجالس، فيكون مدار الحديث فيها مدار العلم والمعرفة، ففي العلم قيمة جمالية وفنية. والجملة «تُحفة في المجالس» خبرية في قوة الإنشائية، أي: اجعلوا العلم تحفةً في مجالسكم، فلا يكون الحديث فيها بلا منفعة فضلًا عن أن يكون فيها مضرة بالغيبة والبهتان والسخرية وما إلى ذلك من آفات المجالس. وتفيد «المجالس» العموم؛ لأنها جمع محلَّى بـ «ال» التعريف، تشمل مجالس اجتماع الناس بأنواعها الرسمية وغير الرسمية، بل يتعدى إلى الأعمال كمجالس الشركات ومجالس الدُّول كمجالس الشورى...، وكذا كل مجلس يجمعُ اثنين فصاعدًا، من دون استثناء لأيٍّ منها؛ فإن حديث العلم والمعرفة هو الذي ينبغي أن يكون تحفتها وطرافتها.

- صاحب في السفر

الصحبة المعاشرة، و«صاحب» اسم فاعل من صَحِبَ، وهو المعاشِر. وأصل الصحبة هو مع الإنسان، فهو الصاحب والصديق والأنيس، لكن هنا نزَّل «الإمامُ» العلمَ منزلة الإنسان فجعله مصاحبًا له في السفر. وإنما خُصَّ السفر بالذِّكر مع أن العلم يُحتاج إليه في الحضر أيضًا؛ لأن السفر يكون مع الوحدة عادة، فيذهب الإنسان إلى بلاد غُربة لا يعرف فيه أحدًا، ويتنقل من مكان إلى آخر وحيدًا، فاحتاج إلى أنيس وليس هو إلا العلم. هذا العلم الذي يتمثَّل في كتاب بقراءته أو محاضرة باستماعها.... وفي هذا المعنى يقول المتنبي في بيته الشهير:

أَعزُّ مكانٍ في الدُّنا سَرْجُ سابحٍ

وخيرُ جليسٍ في الزَّمانِ كِتابُ

فالكتاب سمير المسافر وأنيس الوحيد. وأنْعِم بها من عادة، أن يحمل المرء معه كتابًا في سيارته، أو في جيبه، أو في جواله، يقرأ فيه ما يهوى وما يحب. وهناك أجهزة إلكترونية متوفرة تحمل مئات الكتب بل الآلاف، بصيغ كتب إلكترونية أو «PDF» منها جهاز «Kindle». وبهذا يستغل وقته فيما هو مفيد، ويُذهب الملل والسأم عنه. وفي هذا المعنى يقول الجاحظ: ”والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يَملُّك، والمستميح الذي لا يستريثك، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب“. ﴿الحيوان، الجاحظ، 1/ 39 .

- أنس في الغربة

عَطَفَ «أنسٌ في الغربة» على «صاحب في السفر»، مع أن في السفر غربة. والواقع أن النسبة بين السفر والغربة عموم وخصوص من وجه، يلتقيان في مورد، ويفترق كل واحد عن الآخر في مورد. فأما الالتقاء فهو المسافر الغريب الذي لا يجدًا أحدًا يأنس إليه، فيسافر وحيدًا ويعود وحيدًا، وأما الافتراق من جهة السفر، فهو المسافر الذي لا يجد غربة في سفره إما لكثرةِ أصدقائه أو للقاءٍ بأهله...، وافتراق الغربة عن السفر فهو الغربة في الوطن وهي أشد أنواع الغربة، فهو وحيد في بلده طريد في بلدته مستوحش في بيته. عن أمير المؤمنين : ”الغِنى في الغربةِ وطنٌ، والفقرُ في الوطنِ غربةٌ“. ﴿شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 18/ 190 . وفي هذه الكلمة تأكيد إلى أن خير أنيس عند غربة الإنسان وإن كان وطنه فهو اللجوء إلى طلب العلم بالدرس والقراءة والبحث والمذاكرة. عن أمير المؤمنين : ”الكتبُ بساتينُ العلماء“. ﴿مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، 17/ 302 .

والحمد لله رب العالمين.