حين يكون النصح وجهًا آخر للمحبة
في حياة كل إنسان لحظات يقف فيها أمام أخيه، لا ليفرض رأيًا ولا ليدعي كمالًا، بل ليشارك تجربة أو يقدم نُصحًا خرج من رحم المعاناة أو من لحظة وعي صادق. ومن المؤسف أن يظن بعض الناس أن الناصح لا يكون صادقًا إلا إن كان كاملًا، أو أن النصيحة لا تصدر إلا عن شعور بالتفوق، وهذا غير دقيق؛ فالنصح الحقيقي في جوهره فعل محبة خالص لوجه الله، لا يشوبه استعلاء، بل تعبير صادق عن رغبة في الخير للآخر لا انتقاصًا منه.
كلنا يعلم أن الإنسان بطبيعته كائن يتعلم من أخطائه، ويصقل وعيه من خلال التجارب التي يخوضها، وحين يقدم نصيحة، فإنه يقدم خلاصة تجربته الحياتية وما تعلمه، لعله أن يكون نافعًا لغيره. ومع ذلك، أصبح من المعتاد أن يُواجَه الناصح بالرفض، ليس لأن نصيحته جارحة، بل لأن المتلقي يرى فيها إدانة خفية أو نقدًا مستترًا. والمفارقة أن المجتمعات التي ترتقي حقًا، هي تلك التي تتعامل مع النصح بروح التعلُّم لا بروح الدفاع، بروح التواضع لا بروح التصدي؛ فالنصيحة ليست دائمًا مرآة لعيب الآخر، إنما هي تعكس في أحيان كثيرة عيبًا في الناصح ذاته، مما يجعلها فعلًا إنسانيًا مشتركًا، لا عملية تصويب من طرف واحد. ومن يظن أن الناصح يطلب من غيره مثاليات لا يطالب بها نفسه، فهو ينظر إلى النصيحة بعين المقارنة لا بعين الإصلاح.
ومن هنا تبرز الحاجة لمعرفة أن النصيحة كفعل إنساني لا ينبع من تفوق، بل من تعاطف، ولا تقوم على ادعاء، بل على إخلاص. وهي لا تعني أنك أفضل من غيرك، بل قد تكون في حقيقتها صوتًا خرج من تجربة موجعة خلّفت أثرًا لا تتعامل معه بصمت، ولا ترغب أن يصيب غيرك ما أصابك. فهي ليست عقوبة ولا محكمة، إنما هي وقاية تنبع من محبة وخوف صامت على من يسير في ذات الطريق. فالناصح الصادق لا يُملي رأيًا من موقع سلطة معينة، بل يمد لك يدًا ويفتح نافذة يضيء بها العتمة، وربما يهمس بسؤال يعيد ترتيب داخلك. وهنا يظهر الفارق العميق بين الناصح المتواضع الذي يتحدث إليك من موقع الشراكة الإنسانية ونقل الخبرة، وبين الواعظ المتعالي الذي يخاطبك من برج الوصاية وادعاء العصمة. فالأول يقترب لأنه يراك شريكًا في النقص، والثاني لا يرى إلا كماله. وفي هذا الفارق تنجو النصيحة من فخ التسلط، وتزدهر بروح الرحمة والود والمحبة الصادقة. ففي هذا الزمن المتسارع، والحياة الصعبة التي تتنازع فيها الأصوات على العقول، أصبحت النصيحة الصادقة عملة نادرة، وعملًا شجاعًا، حيث يتوقف أحدهم ليسلّط الضوء على أمرٍ غفلت عنه، رغم احتمال أن يُساء فهمه، أو يُتّهم بالتطفل أو التقليل. فهو موقف يتطلب شجاعة داخلية لا يقدر عليها إلا من امتلأ قلبه بالمحبة الصادقة. ورغم ذلك، يغامر الناصح الحقيقي بكلماته، مؤمنًا بأن ما خرج من القلب سيبلغ القلب، وأن أثر النصيحة لا يُقاس بقبولها الفوري، بل بصدق النية ونقاء المقصد. فالنصيحة في أرقى صورها ليست مجرد خطاب للعقل، إنما هي رسالة للقلب كذلك، ومراهنة على الصفاء الكامن في روح الآخر.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية التواصي بالحق، دون أن يشترط الكمال فيمن يوصي أو يُوصى، بل جعله سمة من سمات الناجين من الخسران، قال جل وعلا في محكم كتابه الكريم في سورة ”العصر“:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ .
والتواصي لا يكون إلا بين أناس يدركون هشاشتهم الإنسانية، ويشاركون في رفع بعضهم البعض لا في محاكمة بعضهم البعض. ولهذا فالنصيحة ليست مجرد كلمة تُقال، بل روح جماعية تحفظ التماسك وتمنع الفرد من الغرق في أخطائه دون يد تمتد إليه. وأحيانًا تكون النصيحة المفتاح الذي يحرر أحدهم من نمط تفكير أقامه داخله كجدار، أو الشعلة التي تعيد ترتيب أولوياته حين تاهت. وما أجمل النصيحة حين لا تُوجّه لجلد الذات، بل لبنائها، ولا تُقال للحكم، بل للإلهام. ولعل أصدق النصائح تلك التي تُهمس بخفة، تُقال بحب، وتُقدَّم بإحساس إنساني صادق، لا من موقع تسلط أو وصاية؛ فالنصيحة الحقيقية لا تُقاس بطولها أو فصاحتها، بل بأثرها الذي يبقى وإن اختلفت الكلمات.
وإن من أرقى ما يمكن أن يفعله الإنسان في مسيرته الحياتية أن ينصح غيره، دون أن يتقمص دور المُعلّم المتعال، ودون أن يخشى أن يُساء فهمه. فالنصيحة إذا خرجت من قلبٍ صادق قد تزرع نورًا لا يُطفأ في درب الآخر، حتى وإن لم تُثمر فورًا. وفي المقابل، على من تُوجَّه إليه النصيحة أن يدرك أن الناصح لا يدعي الكمال، بل يقدم هدية من قلبه، قد تُهدى أو تُنقذ أو تُلهم. وحين نرتقي في وعينا الجمعي، سنتوقف عن تفتيش نوايا الناصح، وعن محاكمته على ماضيه، وسنبدأ بمساءلة أنفسنا: ماذا يمكن أن نتعلم؟ وأين يمكن أن نتحسن؟
وما أحوجنا اليوم إلى ثقافة تعترف بأن الكلمة الطيبة، وإن خرجت من قلبٍ مجروح، قد تكون سببًا في شفاء غيره. لسنا بحاجة إلى مرشدٍ مثالي، بقدر ما نحتاج إلى قلوبٍ صادقة تضيء الطريق بتجاربها، وتقدم من نور الألم بصيرة يُهتدى بها. فإتقان فن النصح وتلقيه ليس مجرد مهارة اجتماعية، بل هو وجه من وجوه المحبة والرقي الإنساني. وكلما ارتقينا في هذا الفن، اقتربنا من بناء مجتمع أكثر رحمة، وأكثر قدرة على التحول والنمو.
فهل نقبل النصيحة حين تُقدَّم إلينا بصدق، أم إن غرورنا يدفعنا لرفضها مهما كانت صائبة؟ وهل نستطيع التمييز بين من ينصح بدافع المحبة، ومن يفعل ذلك بدافع التفوق والوصاية؟