آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

الذكاء الاصطناعي في المؤسسات.. الفرص والتحديات

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

ما يدعو للتأمل وربما للمراجعة أن الذكاء الاصطناعي لم يعد موضوعًا نخبوياً أو مفهومًا محصورًا في أروقة المتخصصين، بل أصبح حاضرًا في الحياة اليومية للأفراد والمؤسسات على حدٍّ سواء.

ولذا نراه قد تسلّل إلى تفاصيلنا الدقيقة دون أن نشعر، فهو موجود في الهواتف الذكية التي تتعرف على وجوهنا، وفي التطبيقات التي تُتابع صحتنا ونومنا، وفي التعليم، والتسويق، وفي الطرق والمواصلات، وحتى في اللعب والترفيه، وكل ما يحرك أفكارنا ومهاراتنا وسلوكياتنا.

أما على المستوى المؤسساتي فإنه يُقدَّم أحيانًا بوصفه ”الحل السحري“ لكل التحديات أو ”جواز العبور“ نحو المستقبل الرقمي، غير أنه في كثير من الحالات لا يتجاوز كونه مجرد ”عنوانٍ طموحٍ“، إذ تفتقر بعض المؤسسات إلى البنية التحتية التقنية، والكوادر البشرية المؤهلة، والثقافة التنظيمية الداعمة، التي تمكّن من تحويل هذا الطموح إلى واقع عملي ملموس يُحدث فرقًا حقيقيًا في الأداء والكفاءة.

والدليل على ذلك أن عددًا كبيرًا من المشاريع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تتعثر في مراحلها المبكرة، إما بسبب غياب الفهم العميق لطبيعة التقنية، أو لضعف التكامل بين الأنظمة، أو لافتقار المؤسسة إلى ثقافة التغيير.

ففي السعودية مثلاً، أشارت تقارير حديثة إلى أن نسبة كبيرة من مبادرات الذكاء الاصطناعي لا تتجاوز مرحلة العرض أو التجريب، بينما لا يتعدى الاستخدام الفعلي في بعض القطاعات كالصحة والتعليم 10% من القدرات المتاحة، والأسوأ من ذلك أن بعض الجهات تستخدم مصطلحات الذكاء الاصطناعي لأغراض تسويقية أو إعلامية فقط، دون ارتباط فعلي بتحسين الكفاءة أو قياس الأداء.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المقصود بالذكاء الاصطناعي؟ وما هي البدايات؟ وما الفرق بينه وبين الذكاء البشري، وبينه وبين الإدارة الإلكترونية؟ وهل نحن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة تطوير حقيقية أم أننا لا نزال نراوح في دائرة الإعجاب النظري والانبهار الإعلامي؟ هذا وغيره ما سنُسلّط الضوء عليه في هذا المقال، فكونوا معنا.

الذكاء الاصطناعي: المفهوم والبدايات

الذكاء الاصطناعي ”AI“ هو أحد فروع علوم الحاسوب، ويهدف إلى إنشاء أنظمة ذكية تحاكي القدرات العقلية البشرية مثل التفكير، والتعلم، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات، وفهم اللغة.

ويُعرف على أنه نظام برمجي صُمّم لمحاكاة بعض أنماط التفكير البشري من خلال ”الخوارزميات“، وهي سلسلة من الخطوات المنطقية والمنظمة تُستخدم لحل مشكلة معينة أو تنفيذ مهمة محددة، تُشبه إلى حدٍّ ما الوصفة في الطبخ، تحتوي على تعليمات دقيقة تُنفذ خطوة بخطوة للوصول إلى نتيجة نهائية، وسُمّيت بالخوارزمية نسبة إلى العالم المسلم ”الخوارزمي“.

وقد بدأ الذكاء الاصطناعي كمجال علمي في خمسينيات القرن العشرين، عندما اقترح ”العالم جون مكارثي“ مصطلح الذكاء الاصطناعي رسميًا في مؤتمر دارتموث عام 1956، مؤكدًا أن كل سلوك ذكي يمكن وصفه برمجيًا، وهو عالم أمريكي في علوم الحاسوب، وصاحب رؤية استشرافية، آمن بأن الآلات قادرة على التفكير والتعلم، وأن هذه القدرات يمكن برمجتها.

كما أن هذه التقنية مرّت بمراحل من التفاؤل والتراجع خلال مسيرتها، إلا أن التطورات الهائلة في الحوسبة والبيانات خلال العقود الأخيرة جعلت منها واقعًا عمليًا يُستخدم في مجالات متعددة مثل الصحة والتعليم والأمن والتسويق، والأعمال بشكل عام، بل وأصبح حاضرًا في حياة الأفراد والمؤسسات.

الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي تكامل وليس تقابل

الذكاء البشري: هو قدرة فطرية معقدة ناتجة عن تفاعل الدماغ مع العاطفة والوعي والتجربة، ويتميز بالمرونة والقدرة على الإبداع والتفكير المجرد، واتخاذ القرارات في سياقات أخلاقية وثقافية واجتماعية متعددة.

لكن الذكاء الاصطناعي يتعلّم من البيانات والبرمجة والتكرار، ويحتاج إلى التدريب المسبق، فمثلًا، قد يلاحظ الإنسان تعابير الوجه، ونبرة الصوت، ولغة الجسد، ويشعر أن صديقه ليس بخير، فيسأله بلطف: ”هل كل شيء على ما يُرام؟“، وهذا رد فعل ناتج عن التعاطف والحدس والخبرة العاطفية، بينما في الذكاء الاصطناعي قد لا يُلاحظ الحزن أو نبرة الصوت ما لم يتم تدريبه على التعرف على ملامح الوجه ونبرة الصوت وتحليل البيانات بدقة.

الإدارة الإلكترونية والإدارة الورقية: اختلاف في الأساليب والأزمان

تُعرف الإدارة الإلكترونية بأنها المنظومة الحديثة التي تعتمد على التكنولوجيا الإلكترونية، وتهدف إلى تحويل الإدارة التقليدية إلى إدارة إلكترونية تعتمد على استخدام الحاسوب وتطبيقاته، كما تُعرف بأنها كافة الوظائف والمهام التي تحددها الإدارة للموظفين من خلال الاعتماد على وسائل الاتصال الحاسوبية، وتشمل رسائل البريد الإلكتروني، وقنوات الاتصال الرقمي، ويؤدي هذا النوع الحديث من الإدارة إلى سهولة الربط بين المديرين والموظفين.

وهذا ما أكدته رئيسة شركة AMI المتخصصة في تقديم التبصرات وحلول الأبحاث بقولها في مقال نُشر لها في أحد المواقع الإلكترونية: ”عاجلًا أو آجلًا ستجد الشركات التي لا تؤدي أعمالها بالكفاءة المطلوبة نفسها خارج حلبة المنافسة، ما يعني أن السوق لن يرحم الشركات غير الكفؤة، أو الشركات التي تفشل في تقديم خدمات أو منتجات ذات جودة سيئة، أو لا تستخدم مواردها بشكل فعال، أو لا تواكب التطورات التقنية والإدارية، فالبقاء غالبًا ما يكون للأفضل وليس لمن يكتفي بالوجود دون إنجاز“.

ويمكن القول أيضًا إن الإدارة الإلكترونية تنفّذ، والذكاء الاصطناعي يخطط ويتعلم ويتوقع، مثل سيارة آلية تسير بكفاءة على الطريق المعبد، والذكاء الاصطناعي نظام قيادة ذاتية ذكي يعرف إلى أين يتجه، ويتخذ القرارات بناءً على الظروف.

لماذا تتجه المؤسسات نحو التحول الرقمي

إن من يراجع أغلب المؤسسات الرسمية أو مؤسسات القطاع الخاص الإنتاجية أو الخدمية، يلحظ بوضوح مدى التطور التقني المذهل الذي طرأ على منظومة العمل، حيث تحوّلت كثير من الإجراءات التي كانت تستغرق أيامًا، وأحيانًا أسابيع، إلى خطوات رقمية تُنجز خلال دقائق. ولكن، ومع الأسف الشديد، لا تزال هناك بعض العقليات التي تُقاوم هذا التحول، مُتمسكة بالبيروقراطية الورقية، وهي عقليات تخشى التغيير وتفتقر إلى المرونة الرقمية، أو يمكن أن نقول بأنها عقليات مترددة في تبنّي التكنولوجيا، وتُفضّل الراحة في النمط المألوف، بحجة أن الأنظمة الرقمية معقدة، وأن التحول الرقمي قد يؤدي إلى فقدان السيطرة أو ضعف الرقابة على سير العمل، أو من باب الحفاظ على الأصول أو الالتزام بالتعليمات التقليدية، وما إلى هنالك، وكأنها لم تُدرك بعد أن العالم قد دخل عصر السرعة والذكاء الاصطناعي، وأن من لا يُواكب هذا التطور سيجد نفسه خارج دائرة المنافسة، وربما عاجزًا عن الوفاء بأبسط متطلبات الجودة والكفاءة.

ويكفي أن نشير إلى تقرير هيئة الحكومة الرقمية لعام 2024 م، الذي كشف أن متوسط الأداء العام للتحول الرقمي في الجهات الحكومية بلغ 87,14%، مقارنة بـ 85,53% في عام 2023، مما يعكس تطورًا كبيرًا في تبنّي التقنيات الرقمية وتحسين الخدمات الإلكترونية.

ومن أبرز الجهات التي حققت نتائج متقدمة في هذا المؤشر، على سبيل المثال: المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بنسبة 95,00%، وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بنسبة 94,89%، وهيئة الزكاة والضرائب والجمارك بنسبة 94,39%، وغيرها من الجهات.

بين التصفيق والممارسة: أين تقف المؤسسات

لقد تطوّر العصر الذي نعيشه تطورًا مذهلًا، بحيث أصبحت النظم المعلوماتية تسيطر على ميادين العمل بكل أبعاده الصناعية والتجارية، وفي الأداء والإنتاج والتسويق، وحتى في اختصار المسافات بين المستهلك والمنتج، لا سيما في توافر المعلومات واختصار تكلفة النقل والحركة، وهو ما جعل البعض يصنّف التعاملات الإلكترونية بأنها إحدى وسائل الإنتاج الضرورية، شأنها في ذلك شأن القوى العاملة ورأس المال.

وباختصار، يمكن القول بأن التعاملات الإلكترونية أصبحت ضرورة من ضروريات العمل، وتلعب دورًا مهمًا في تحديد القدرات التنافسية للمنشأة، وتعمل كذلك على تطوير الوظائف الإدارية واتخاذ القرارات الصعبة والصائبة، بالإضافة إلى إيجاد مزايا استراتيجية لمنتجات المنشأة. ولعل من أبرز الأسباب والدوافع التي تجعل المؤسسات التقليدية تتجه نحو التحول الرقمي:

1. أن العالم اليوم يتحرك نحو الأتمتة والذكاء الاصطناعي، ومن يتأخر عن هذا التحول يُصبح خارج نطاق المنافسة، تمامًا كما حدث مع شركات عملاقة كانت تهيمن على السوق في زمن ما، لكنها تجاهلت التحول الرقمي، فانكمشت حصتها السوقية وتراجعت قدرتها على الابتكار، مثل شركة ”كوداك“ التي تجاهلت ثورة التصوير الرقمي فخرجت من المشهد بعد أن كانت رائدة فيه.

2. في المقابل، ننظر إلى شركات مثل ”أمازون“ و”تسلا“، التي لم تكتفِ بتبني الأتمتة والذكاء الاصطناعي، بل جعلت منهما جوهرًا لاستراتيجياتها التشغيلية، ما مكنها من تقديم خدمات أسرع، وتجارب عملاء أكثر دقة، ونماذج عمل أكثر مرونة وتطورًا.

3. إن الذكاء الاصطناعي يُقلّص الطبقات الإدارية، ويُعزّز فاعلية المتابعة والرقابة اللحظية، مما يحدّ من البيروقراطية، ويُسرّع اتخاذ القرار، ويُسهم في رفع كفاءة الأداء المؤسسي من خلال إتاحة البيانات الدقيقة للمسؤولين في الوقت المناسب.

4. الموظفون الجدد نشأوا في بيئة رقمية، ويتوقعون بيئة عمل تكنولوجية تشبه أسلوب حياتهم، حيث تكون العمليات مؤتمتة، والتواصل سريعًا وفعالًا، والوصول إلى المعلومات يتم بضغطة زر، مما يجعلهم أقل تقبّلًا للبيروقراطية التقليدية، وأكثر مطالبة بالمرونة والعمل عن بُعد، والأنظمة الذكية التي تعزز الإنتاجية وتواكب تطلعاتهم المستقبلية.

5. التحديات اليومية لم تعد بسيطة، وتتطلب أدوات ذكية للتحليل واتخاذ القرار ومتابعة التنفيذ بدقة. إذ لم يعد بالإمكان الاعتماد على الاجتهادات الفردية والقرارات التقليدية في بيئة عمل تتسارع فيها المتغيرات، وتزداد فيها الضغوط. فالتقنيات الحديثة، ونُظم المعلومات المتقدمة، وتحليلات البيانات، أصبحت ركائز أساسية لضمان الكفاءة وتحقيق الأهداف.

الأثر المتوقع وانعكاساته على مستقبل المؤسسات

لقد تجاوز الذكاء الاصطناعي مرحلة كونه مجرد أداة تقنية، إلى كونه ركيزة استراتيجية لإعادة تعريف أساليب العمل والإنتاج واتخاذ القرارات داخل المؤسسات. ولهذا يمكننا القول بثقة: إن المؤسسات الطموحة لا تنتظر التحولات بل تصنعها، ولا تكتفي بتحديث الأجهزة، بل تجدّد العقول والأنظمة والنيات.

فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد موجة عابرة، بل تحوّل جذري لا يستأذن أحدًا، ولا يرحم المترددين. إنه لم يعد أمرًا مستقبليًا، بل هو واقع حاضر، يفرض علينا أن نتعامل معه بمنطق الاستثمار لا الاكتفاء، وبذهنية التطوير لا الاستهلاك. وإن الاقتصار على الذكاء الاصطناعي كأداة إلكترونية، هو اختزال مجحف لإمكاناته وقدراته، فالقيمة الحقيقية له تكمن في تحويله إلى استثمار مؤسسي عميق يطال التفكير، والتخطيط، وصناعة القرار، وتطوير الأداء.

وليس معنى هذا أنه بديل عن الإنسان، بل شريك أساسي في التقدّم، وفي تطوير الثقافة المؤسسية، وفي تبنّي نماذج التشغيل الجديدة القائمة على التحليل والتعلّم والمرونة والابتكار.