آخر تحديث: 10 / 6 / 2025م - 2:47 ص

بائع الآيسكريم ”أبو حيدر“

عباس سالم

من منا لا يعرف بائع الآيسكريم الحاج ”أبو حيدر“ يرحمه الله؟ واسمه ”عبدالله حيدر حماد“ الذي كان يجلس في زاوية أمام المدرسة الابتدائية بجزيرة تاروت، بين ظل سعف النخيل الممزوج بخليط الآيسكريم ورائحة الأرض وعبق الذكريات، مرتديًا ثيابًا بسيطة وكأنها تاجٌ فوق صخرة الصمود في وجه الزمن القاسي.

عاش أبو حيدر وزوجته ولهما ولدان وبنتان في منزل العائلة ”بيت حماد“ في الديرة، الذي يكتنفه عبق الذكريات لكن الزمن لم يرحمه بعد أن غادرته معظم العوائل التي كانت تسكنه، وتصدعت جدرانه المتهالكة فانهار مع مجموعة من البيوت التراثية التي كانت جدرانها المتداخلة تحكي قصصًا من الكفاح، وكل صخرةٍ فيها تهمس لنا بأسرار الحياة لرجال عاشوا زمنًا كان قاسيًا لكنه لم يمنعهم من العمل لتوفير لقمة العيش.

لم يكن المرحوم الحاج ”أبو حيدر“ مجرد بائعٍ للآيسكريم، بل كان رمزًا للصمود والإصرار أمام قسوة الحياة في تلك الحقبة الزمنية، فعمل في مهنة الصيران مع الحاج حسن المرحوم يرحمه الله والحاج إبراهيم العماني يرحمه الله، وعمل كذلك في الفلاحة منبتًا ومحدرًا وصارمًا للنخيل، بالإضافة إلى رحلاته إلى العراق وسوريا وإيران للزيارة والتجارة ذهابًا وإيابًا.

عمل بائعًا متجولًا بعربة بين أزقة الديرة وتميز ببيع الآيسكريم أمام المدرسة الابتدائية بتاروت، حيث كان يجلس وبين يديه ثلاجة الآيسكريم الصغيرة، وعلى يمينه تقف عربة فيها خليط من الحلويات اللامعة والبسكويتات وبعض الألعاب الصغيرة، ورغم وهن جسده كان يجر عربته بصبرٍ وجهدٍ من مكان سكنه بحي الديرة التراثي بجزيرة تاروت إلى مواقع يختارها هنا وهناك.

كان يعبر الطريق إلى المدرسة مرتديًا ثوبه الأبيض الفضفاض وغترته البيضاء التي عصبها على رأسه، وهو يجرها مناديًا بصوت يختلط فيه أنين الناي مع بحيح من حشرجة بكاء ضارب في القدم مناديًا: ”برد على قلبك يا ولد، تذوق آيسكريم بحليب الطير“ قاصدًا معشوق الصغار والكبار في فصل الصيف ”الآيسكريم“ ليختلط نداؤه مع روائح باعة النخج والباجلة وأصناف أخرى معمولة على تنانير الطين في زمن الطبيعة.

عند عودته من المدرسة كان يمر عبر أزقة المنطقة القديمة ”الديرة“ حيث تتجاور حكايات أصحاب الدكاكين التي كانت مجالس للبوح ونقل الأخبار، عاش الناس في تلك الحقبة الزمنية على واقع من الخطوات المرهقة، تحمل على كاهلها معاني الصبر وتحكي قصصًا منسية في كل زاوية، وحكايات صامدة تتحدى الزمن، ورغم قساوة الأيام إلا أن الناس كانت تبتسم، وكأنها تهمس للقدر قائلةً: سنظل نكافح من أجل الحياة.

قبل أن يغادر المكان عند غروب الشمس كان يجلس الحاج أبو حيدر فوق دكة قديمة بين أزقة الديرة، يحسب نقوده القليلة التي كسبها وهو يفكر في مستقبل الأولاد، الذي بدا كسراب، لكنه لم يفقد الأمل، لأنه كان يعلم بأن الحياة تحتاج إلى صبر، ولا تمنح شيئًا لمن لا يجتهد ويعمل، وأن لكل مجتهدٍ نصيبًا من الله تعالى، وفي كل يوم تشرق فيه الشمس وعدٌ بمستقبل قد يزهر مع الصبر والمثابرة.

في أيام الطفولة والصبا كنا نركض بين أزقة الديرة نبحث عن أبو حيدر، فنسمع همسات الماضي تتراقص مع نسمات الهواء المحملة بعطر الأيام الخوالي. حيث كانت قصة بائع الآيسكريم قصيدةً غير مكتملة، ترويها لنا تفاصيل المعاناة والصمود، وتعكسها جدران البيوت الباهتة، وكانت درسًا حيًّا بأن الثراء الحقيقي لا يُقاس بالمال، بل بالإرادة التي تجعل من الألم نقطة انطلاق، ومن الشقاء منصةً لتحقيق الأحلام.

ختامًا: لا أظن أن أحدًا من الطلاب في المدرسة الابتدائية بجزيرة تاروت، ولا زملاء الطفولة والصبا في حينا الشعبي ”الحوامي“ لا يعرفون بائع الآيسكريم ”أبو حيدر“ يرحمه الله، الذي كان رمزًا للصمود والمثابرة في وجه قسوة الحياة، حيث لم يمنعه جسمه النحيل من جر عربته الطويلة من أزقة الديرة المرتفعة إلى طريق المدرسة المنخفض ذهابًا وإيابًا.

ملاحظات:

شكرًا للحاج ملا حسين الفضل ”أبو شريف“، والحاج أحمد حيدر ”أبو هالة“، وعبدالله فيصل ”أبو أحمد“، وفاروق جابر ”أبو محمد“، ومحمد الصفواني ”أبو وليد“، الذين أثرونا بالمعلومات عن المرحوم ”أبو حيدر“.

معنى الصيران هو: تجميع جذوع النخل وخلطها مع الطين ثم حرقها للحصول على مادة ”الجص“ التي تُستخدم لبناء المنازل، لأن مادة ”الإسمنت“ لم تكن موجودة في ذلك الزمان.