شكرًا... أكثر من مجرد كلمة
”شكرًا“ ليست مجرد كلمة تتألف من ثلاثة أحرف، بل هي شهادةٌ تُمنح، وكرامةٌ تُضاف، وروحٌ تُبعث في قلب المُشْكُور، فتدفعه إلى مزيد من العطاء. إنها تجسيدٌ حقيقيٌ للتقدير في أبهى صوره، إذ تحمل في طياتها ثلاثة معانٍ جوهرية:
ش: شهادةٌ تُوثِّق قيمة الجهد وتُقرّ بالفضل.
ك: كرامةٌ تمنح المشكور الثقة، فتُعزز حضوره وتُرسّخ مكانته.
ر: روحٌ تُحييه، فتُلهمه العطاء بسخاء.
بهذا، تتحول ”شكرًا“ من مجرد تعبيرٍ مجامل إلى طاقةٍ تُحفّز الخير وترسّخ قيم التقدير الإنساني. لذا، أدعو القراء الأعزاء، سواء على منصة جهات الإخبارية أو بقية الصحف الإلكترونية، إلى ألا يبخلوا بهذه الكلمة على من يستحقها، أو حتى لمن لا يتوقعها؛ فهي ليست مجرد مجاملةٍ عابرة، بل الحد الأدنى من الاعتراف بالفضل، لا سيما أن الكاتب أو الكاتبة قد استفرغوا وسعهم وجهدهم في تقديم زبدة أفكارهم وعمق رؤاهم.
وفي الوقت ذاته، فإن الشكر لا يعني القبول المطلق للأفكار المطروحة؛ فقد ورد عن أمير المؤمنين : ”كثرة الوفاق نفاق“ [1] ، يبقى النقد البنّاء أرقى أشكال التفاعل، فهو لا يُثري النقاش فحسب، بل يفتح آفاقًا جديدة للفهم والتأمل. فعلى سبيل المثال، عندما أتصفح قناة القاص الكويتي أبو طلال الحمراني على يوتيوب، أجد أن المقطع الواحد لا يقل عن 1500 تعليق. صحيحٌ أن التعليقات تتفاوت بين العميق والسطحي، وبين المفيد والتافه، إلا أنها في مجملها تضيف أبعادًا ربما لم تكن في ذهن القاص نفسه، مما يُبرز الدور الحيوي للتفاعل في إثراء المحتوى.
إذا تأملنا في تراثنا الروائي، نجد الكثير مما يدعم هذا الاتجاه. فرعون، رغم طغيانه وإذلاله لقومه وادعائه الألوهية ومنازعته لله في كبريائه، جاء تكليف موسى بالدعوة إلى الحوار بالحكمة واللين، كما في قوله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [2] ، وفي السياق ذاته، ورد عن أهل البيت
: ”من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق“. [3]
كما جاء عن الإمام زين العابدين : ”يقول الله تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانًا؟ فيقول: بل شكرتك يا رب. فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكر.“ [4]
وهذا يُؤكد أن الكلمة، سواء كانت شكرًا أم نقدًا، تحمل في جوهرها قوةً تُعيد تشكيل العلاقات الإنسانية، وتمنح الفكر مساحاتٍ أرحب للنمو. الامتنان يُحفّز العطاء، والنقد الواعي يُضيء مساحات الفهم، وبينهما يتشكل الحوار الذي يُثري العقل ويُهذّب الروح.
ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمل، وربما الابتسام، أن الغرب لم يكتفِ بالكلمة الطيبة أو النبرة الهادئة لكلابه وقططه، بل لجأ إلى تشغيل الموسيقى للأبقار، معتقدًا أن الألحان الهادئة تحفّزها على إنتاج المزيد من الحليب! مهما بدا ذلك غريبًا، فهو واقعٌ يُؤكد أن الصوت والكلمة ليسا مجرد وسائل للتواصل، بل أدواتٌ قادرةٌ على التأثير في الطبيعة ذاتها.
وأختم بما أنشده ابن حيوس في هذا السياق:
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب * فلأشكرن ندى أجاب وما دعى
ومن العجائب والعجائب جمة * شكر بطئ عن ندى المتسرع