آخر تحديث: 3 / 6 / 2025م - 1:44 ص

يا صاحب الدار، كن رحيمًا

رضي منصور العسيف *

في صباحٍ مكتظّ كغيره من صباحات المستشفيات، كنتُ جالسًا في ركنٍ من ردهة الانتظار، أرقب حركة الناس والعيون المثقلة بالتعب، حين لفت نظري مشهدٌ لم أكن أتمنى أن أراه... لكنه وقع، كصفعة هزّت البصر، وأيقظت في القلب وجعًا دفينًا.

الضجيج هادئ... صمتٌ مشوبٌ بأنين، وهمساتٌ تتسلل من بين شفاهٍ تتوق للعافية. وبين هذا وذاك، انفتح باب العيادة فجأة على مشهدٍ أثار في النفوس خليطًا من الدهشة والأسى.

امرأة مسنّة تجلس على كرسيٍّ متحرّك، يدفعه رجل يبدو من ملامحه وهيئته أنه عامل وافد. كان وقورًا، صامتًا، رأسه منحنٍ، وكأن الغربة صقلته بخشوع الصبر، وألبسته ثوب الحياء قبل أن تخرج من فيه أي كلمة.

لكن تلك العجوز كانت تتحدث إليه بحدّةٍ جارحة، ونبرةٍ خالية من الرحمة. كلماتها تناثرت كالسياط، مليئة باللوم والغلظة، وكأنها تُفرغ في صدره كل تعبها ووجعها. ومع ذلك، لم يُظهر أي تذمر. بل واصل الدفع، صابرًا كأنه اعتاد على مثل هذه المواقف، أو ربما لم يكن يملك خيارًا غير التحمل.

ثم، فجأة، انفجرت بكلمةٍ اختصرت كل المرارة. نادت عليه بلفظٍ جارح، بكلمةٍ من ثلاثة حروف، لفظة خادشة، تنمّ عن احتقار لا إنساني:

”يا ابن ال...!“

آهٍ من تلك الكلمة!

كأن الصالة كلها صمتت، والهواء تجمّد.

كأن سيفًا هبط من السماء، شطر السكون نصفين.

ارتجفت روحي. شعرت وكأن الشتيمة سقطت عليّ أنا، لا عليه. كيف وصل الجحود ببعض الناس إلى هذا الحد؟ أليس هذا الإنسان الذي تخاطبينه، غريبًا أنهكته الغربة؟ أليس بيننا وبين الله لحظة نُحاسب فيها على الكلمة؟!

هذا الرجل... مغترب. غريب الوجه واليد واللسان، ترك أهله وبلده ليكسب لقمة عيش بكرامة. لا نعلم ما ترك خلفه، ولا ما يحتمله كل يوم من أجلنا. فهل يكون جزاؤه الإهانة؟ أهذه مكافأته على صبره وخدمته؟

وسألت نفسي بحرقة:

أين أبناؤها؟ أين بناتها؟ كيف تُترك امرأة مسنّة تعاني المرض والحدة وحدها مع سائق؟ أين البرّ الذي نتفاخر به؟ وأين العاملة التي كان يفترض أن تكون معها؟ أين من يحمل عنها عبء الكِبَر بدل أن تفرّغه على من لا حول له ولا قوة؟

اللوم ليس عليه. بل عليها أولًا، ثم على أبنائها الذين غابوا عن مشهد البر، ثم على مجتمعٍ بدأت تنحسر فيه الرأفة شيئًا فشيئًا.

يقولون: يا غريب، كن أديبًا...

لكنّ الحقيقة الأعمق تقول:

يا صاحب الدار، كن رحيمًا.

فالكرامة ليست للغريب وحده، بل أيضًا لمن يُحسن استقباله، ويصون خدمته، ويحترم إنسانيته.

خرج السائق بهدوء، لا كمن أنهى عمله، بل كمن حمل معه جرحًا لا يُرى، ومضى. أما هي، فظلت تتمتم بكلماتٍ لا أدري أكانت شكاية، أم كبرياء عنيدًا؟ لكنها، في تلك اللحظة، فقدت شيئًا ثمينًا... وقار السنين ورفق القلب.

همست في نفسي:

”ليتكِ علمتِ أن ما يُرفع الناس عند الله، ليس الكِبَر في السِنّ، بل الكِبَر في الخُلق.“

علّمني ذلك الموقف درسًا لا يُنسى:

أن لا نُهين من خدمنا،

وأن لا نُقصّر في رعاية من ربّانا،

وأن نزن كلماتنا بميزان الرحمة،

لأن كل كلمةٍ نرمي بها غيرنا، قد تعود إلينا في زمن لا نُحسن فيه الردّ.

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف