آخر تحديث: 3 / 6 / 2025م - 1:44 ص

سلسلة المعارف الجوادية «3»:

بحر الهزيمة

ورد عن الإمام الجواد : «مَن اِنقَطَعَ إِلى غَيرِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إليه» [بحار الأنوار ج 75 ص 364].

في طيات هذا التوجيه النوراني ما ينبئ عن حقيقة الروح الإيمانية وتأثيرها على الاتجاه الفكري والفعل السلوكي، فالإيمان بالله تعالى ليس مجرد كلمات أو فعل لا تأثير ولا نتاج له في سيرة الإنسان، بل هو اعتقاد جازم بالحكمة والعدل الإلهي في تدبير شئون الكون والإنسان وفق نظام دقيق لا خلل ولا نقص فيه، فلا قدرة مطلقة مهيمنة على تفاصيل ومجريات حياة المرء غير الله تعالى، فلا يمكن لضرر أن يصل إليه - وإن اجتمع الجن والإنس - والإرادة الإلهية لا تقدّره عليه، وفي المقابل فإن سعي الإنسان وصب جهده لن يصل إلى الغاية المنشودة ما لم ينل التوفيق والتسديد الإلهي، وما في هذا العالم من قوى وعوامل مؤثرة يرتكن الإنسان إليها ويعدها سندا له في الحياة ويتحصّل منها على الضمانات الأكيدة فهو واهم، فبوصلة التوجه والتحرك ينبغي أن تسترشد الهدي الإلهي وتعمل بكل جهد في طريق الأهداف، وأما تحقق النتائج بما يتوافق مع رغباته فهو أمر لا يقع في كل مرة، ولهذا فإن الطمأنينة والسلام الداخلي والتصالح مع الذات يصب في مجراه الصحيح إن كان عين الفكر والفعل منصبة على العمل بهمة عالية دون توقع النتائج الأكيدة في مصلحته الظاهرية في كل مرة، فهناك من يحيا التيه الفكري وخوار القوى بسبب الثقة المطلقة بسعيه والسقوف العالية لتوقعاته، وما إن يخفق في خطوة أو مرحلة إلا ويقذف اليأس الشلل والسقوط في روحه وطاقاته.

الإمام الجواد يؤكد على جنبة مهمة وهي تصوّر الحصول على الأمان وتحقق الغايات بالاتصال بعوامل القوة والاقتدار المادي، فيأمل الإنجاز والنجاح الأكيد والانتصار المؤزّر بسبب خطواته المعدة وفق التخطيط والعمل الجاد والقراءة المعمقة، وهذا بحد ذاته لا مؤاخذة عليه ولا اشتباه فيه فمن حق العامل الواثق بقدراته وإمكانياته توقع النتائج الإيجابية، ولكن العراقيل وعدم إصابة الهدف احتمالات لا ينبغي إغفالها لمن يخطط حياته وأعماله، فبلوغ المأمول ومنح علائم الراحة النفسية والسعادة وتجنب مواضع الخسارة والألم قد تدفع الإنسان إلى تلمّسها وطلبها من مصادر القوة حوله كالمال والقدرات الذاتية والفكر الوقاد والإمكانيات المتاحة والفرص السانحة وغيرها، وهذا أمر صائب لكن تماميته تتوقف على التوفيق والإرادة الإلهية في تحققه في نهاية المطاف على أرض الواقع، فقد يصادف من العراقيل والظروف الحياتية والمشاكل ما يشكل مانعا من ولادة أهدافه وبزوغها، فالعوامل المتعددة في الحياة هي قوى وأسباب محدودة ولا تحقق الغايات إلا بعد حصول المشيئة الإلهية.

الاعتماد والثقة بغير الله عز وجل كقوة مهيمنة وقادرة على تحقيق الأمور محض وهم يجر الإنسان نحو السراب والتيه، فإن العناية والتدبير الإلهي متى ما رُفع عن الإنسان وأوكله سبحانه إلى نفسه ومصدر القوة الوهمي الذي يعتقده، فقد بدأ حينئذ مسيرة عكسية وسلما خلفيا يتقدم ويعتلي درجاته وهما ولكنه في نهاية الأمر لا يصل إلى شيء.

وهذا التخلي الإلهي عن عبده المغرور بما عنده من أسباب القوة درس لعله يخرجه من شرنقة الجهل والغفلة التي تحيط به، بينما المؤمن بالله تعالى يجري أموره وفق معادلة توازنية تختزل سعيه وهمته وعمله الجاد في ميادين الحياة بحثا عن وجود عملي لأهدافه ومشاريعه، بعد التوكل على الله تعالى والثقة التامة بأن النتائج لن يكون وجودها وفقا لمراده أو آماله لوحدها، بل تخضع للإرادة والحكمة الإلهية التي تتوّج جهوده بالتحقق أو التأخير أو منعها لمصلحة تخفى عليه، فالسكينة والراحة الازدهار النفسي نتاج الثقة بالله تعالى دون أن يطمر الفرد طموحاته أو يتوقف عند مرحلة معينة.