جيل يطالب بالتغيير.. لكنه لا يتغير
في كلِّ زاوية من زوايا الحديث؛ في المجالس، ومجموعات الدردشة، ومنصات التواصل، تتكرر نداءات التغيير، وتكثر الشعارات التي تدعو لتطوير المجتمع، وتصحيح بعض المسارات.
لكن اللافت أنَّ كثيرًا من هذه النداءات، على الرغم من صدق بعضها، تنطلق من أشخاص لم يخطوا خطوة واحدة نحو التغيير الحقيقي في داخلهم.
خذ مثلًا المشهد الرياضي، الذي يستهوي غالبية الشباب اليوم:
كم من مشجع ينتقد تراجع مستوى فريقه، لكنه لا يقدّر الجهد، ولا يعرف من الرياضة إلَّا التهكم والتصيد!
وكم من لاعب هاوٍ يتحدَّث عن الاحتراف، وهو لم يلتزم ببرنامج تمارين، ولا بنمط حياة رياضي، ولا حتَّى بأساسيات الاحتراف الحقيق؛
بل إنَّ بعض المحترفين لا يطبّقون أبسط قواعد الاحتراف، لكنهم يطالبون بتطبيق كلِّ بنوده متى ما كانت في صالحهم!
والأغرب من ذلك، أولئك الذين لا يملُّون من ترديد شعارات ”نبذ التَّعصب“ و”الروح الرياضيَّة“؛ لكنهم عند أوَّل خسارة، ينقلبون لمهاجمة اللاعبين، وتسفيه الجماهير، ونشر الاستفزازات!
وكذلك أولئك الذين إذا انتصر فريقهم أو حقَّق بطولة، استغلوا المناسبة في الانتقاص من الآخرين، والتَّعالي على جماهير الفرق الأخرى، وكأنَّ البطولة وثيقة تفوّق شخصي، لا مجرَّد فوز رياضي قد يتبدَّل من موسم لآخر.
ينتقد أحدهم ضعف التَّعليم، بينما لم يفتح كتابًا منذ التخرج.
ويعيب آخر غياب القدوات، وهو لا يتردد في مشاركة المحتوى السطحي والتافه.
ويتألم ثالث من الفساد، لكنه لا يرد تحية، ولا يحترم طابورًا، ولا يُنجز ما عليه من واجب.
إنَّه جيل يريد أن يتغيَّر كلُّ شيءٍ.. إلَّا هو.
وما الأمثلة التي رأيناها إلَّا صورة مصغَّرة لما يجري في مجتمعنا بشكل عام، حيث بات التناقض بين الشعارات والسلوك أمرًا مألوفًا لدى كثير من النَّاس..
فالمفارقة التي باتت سمة لدى كثير من الشباب هي هذا التباين الغريب بين الخطاب والممارسة.
ينتقد، يطالب، يكتب، وربما يحرِّض على التغيير؛ لكنه لا يمدُّ يده ليبدأ بنفسه.
يطالب بالعدالة، لكنه لا يراعيها في تعامله مع الآخرين.
يشتكي من الفوضى، لكنه لا يحترم مواعيده.
يبحث عن وعي جمعي، لكنه لا يراجع جهله الفردي!
يتغنى بالمبادرات المجتمعيَّة، لكنه لا يمدّ يده لمبادرة واحدة.
يحلم بإصلاح الواقع، لكنه لا يتزحزح عن عاداته اليومية التي تُكرّس ذلك الواقع.
وكلَّما ازداد التباعد بين ما يُقال وما يُفعل، ضاعت بوصلة التغيير الحقيقي، وتحولت القضايا إلى شعارات عابرة، والهموم إلى تغريدات يتيمة، لا أثر لها خارج حدود الهاتف.
في مجموعات الواتساب، وفي المجالس، نُكثر الحديث والتنظير، وكأننا نملك مفاتيح الإصلاح، بينما أفعالنا تسير في اتجاه مختلف تمامًا.
فالمشهد لا يقتصر على المنابر والحوارات؛ بل يمتد إلى تفاصيل الحياة اليوميَّة التي نعيشها.
خذ مثلًا قاعات الزواج، تلك التي تعجّ بأعداد تفوق الطاقة، واختناقات مرورية غير مبررة، وازدحام لا يحمل من الذوق إلَّا القليل.
بل حتَّى في لحظة السلام على العريس أو التصوير معه، يتكدّس الناس بشكل يربك الجميع، ويتذمر البعض من طول الانتظار وازدحام الطابور، لكن العجيب أن هذا ”البعض“ ذاته، حين يُزف ابنه، يُبرّر كل شيء، ويفسر الفوضى على أنَّها ”كرم ضيافة“ و”فرحة لا تُقيّد“.
وإذا تغيَّر الموقع، تغيّرت المبادئ، وإذا انتقل من دائرة التلقي إلى دائرة الفعل، انطفأت نداءات التنظيم، وغابت أصوات التغيير.
وهكذا، نردد صوت العقل في العلن، ونخالفه في الخفاء.
لسنا بحاجة إلى المزيد من الدعاة بالكلمات؛ بل إلى الصادقين بالفعل.
فما أسهل أن تكتب، وأن تنصح، وأن ترفع الشعارات؛ لكن ما أصعب أن تكون ما تقول، وتعيش ما تدعو إليه.
المؤلم أن يتحول بعض الناس إلى موجِّهين دائمين، يوزعون الملاحظات، ويشخّصون العيوب، وينتقدون السلوكيات، من دون أن يمرّوا على أنفسهم، أو يراجعوا ممارساتهم، أو يتواضعوا أمام ما فيهم من نقص.
وما أكثر من يُنادي بالإصلاح وهو لم يصلح من لسانه، أو خُلقه، أو عاداته اليوميَّة.
وما أكثر من يحذر من التعصب، ثمَّ يغضب لأبسط رأي.
ومن يطالب بالنظام، ثمَّ يُخِلّ به عند أوَّل فرصة.
ليس عيبًا أن نحمل همّ التغيير، لكن العيب أن نحمله بأيدٍ لا تُحسن حمله، وبألسن تنسى ما قالت حين تُختبر.
على الإنسان أن يكون صادقًا مع نفسه أوَّلًا؛ نقيًا في نواياه، ملتزمًا بما يدعو إليه، لا يلبس عباءة الإصلاح وهو لم يواجه فوضاه الداخليَّة، ولا يتصدر للتوجيه وهو غافل عن أبسط معاييره.
فالنفوس المتعبة من الازدواجية، لم تعد تنتظر من ينصحها ببلاغة، وإنَّما من يعيش بجوارها بصدق.