حين تهمس النحلة لشجرة المانجروف
لم يكن مشهد النحلة وهي تحلّق قرب أوراق المانجروف على سواحل القطيف مجرد صدفة عابرة. كان ذلك المشهد البسيط، في ظاهره، بداية لحوار صامت وعميق بين عناصر الطبيعة، واستجابة ذكية من الإنسان. لقد كان بمثابة نداء، سمعه مكتب وزارة البيئة والمياه والزراعة بمحافظة القطيف والمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، فأدركا أن ثمة فرصة نادرة لصياغة مبادرة تنموية تُجسّد الانسجام بين التنمية البيئية والاقتصاد المحلي المستدام.
في عام 2021، بدأنا تلك المبادرة من سؤال واحد: كيف نمنح النحل بيئة بحرية فريدة دون أن نُثقل على النظام البيئي؟ وكيف نقدّم للمجتمع منتجًا نقيًا يحمل في جوهره قيمة تتجاوز العسل كمادة غذائية؟ بهذه الرؤية، وُضعت أولى خلايا النحل على أطراف غابات المانجروف، في مواقع مدروسة بعناية. راقبنا كيف تتداخل أجنحة النحل مع المدّ والجزر، وكيف يتشكّل هذا التفاعل بين الكائنات المُلَقِّحة والبيئة الساحلية دون أن يُخلّ بتوازنها.
ومع حلول عام 2022، لم تعد المبادرة مجرد تجربة محدودة. فقد التحق بها أربعون نحالًا ونحالة من محافظة القطيف وخارجها، اصطحبوا معهم خلاياهم وأملهم، واستقروا بخبراتهم ومهاراتهم على شواطئ سيهات وتاروت. خلال عشرين يومًا أو أكثر، عملت 1500 خلية نحل قرب جذور المانجروف، كأنها تستنشق رائحة الملح وتمتزج بعطر الطبيعة الساحلية، في مشهد يثير الدهشة والطمأنينة في آن.
بدأت ملامح النجاح تتشكّل، وكان لزامًا علينا أن نُحسن البناء على هذه النتائج. فجاء عام 2023 ليُظهر أن ما بدأ كتجربة صار اليوم منهجًا. توسّع نطاق المشاركة، وارتفع عدد الخلايا إلى 2278، وبلغ الإنتاج 8600 كيلو من عسل لم تألفه الأسواق من قبل. عسل يحمل بصمة المكان، ومذاقًا نابعًا من بيئة لم تُستغل تجاريًا من قبل، بل رُوعيت فيها أدق تفاصيل التوازن البيئي.
وحين أطلّ عام 2024، كانت المبادرة قد بلغت مرحلة النضج والازدهار. أكثر من 4000 خلية نحل عملت بتناسق تام مع الغطاء النباتي الساحلي، وبلغ الإنتاج 12000 كيلو من العسل النقي، المستخرج من قلب منظومة بيئية تتنفس برًّا وبحرًا. كل ذلك جرى تحت إشراف المركز الوطني، وبضوابط فنية تضمن استدامة الغابات وعدم المساس بأصولها النباتية.
في خضم هذا التوسع، لم نغفل عن الرؤية المستقبلية. فقد كان واضحًا لنا أن الاستدامة لا تقف عند الكمّ، بل تمتد إلى الكيف. من هنا انطلقت مرحلة جديدة، دُعي فيها النحالون للتحول نحو الإنتاج العضوي. بعضهم بدأ فعليًا خطواته الأولى، والبعض الآخر وجد في دعم المركز والبرامج الوطنية حافزًا قويًا للمضي قدمًا. فتحت لهم أبواب الدعم الفني، وربطناهم بمبادرات وزارة البيئة والمياه والزراعة، من برنامج ريف إلى برامج الدعم العضوي، لنضمن أن تكون رحلة النحلة نحو العسل العضوي رحلة ممنهجة ومدعومة.
لم تمرّ هذه التجربة بصمت، بل وجدت صداها في المجتمع والإعلام. تحدّثت عنها الصحف والمنصات الإلكترونية، وكتبت عنها ”واس وصحيفة اليوم وجريدة الرياض“ وسلّطت التطبيقات التفاعلية مثل قطيف اليوم وصُبرة وخليج سيهات، وجهات الإخبارية «جهينة» وغيرهم مما قد خانتني ذاكرتي لذكرهم إلا أن قلوبنا تلهج بشكرهم لتسليطهم الضوء على الفوائد الصحية لهذا المنتج الفريد. كما جاءت التكريمات المحلية والعالمية لتُتوّج هذا العمل، وتُعبّر عن فخر المجتمع بنحاليه، الذين لم يكونوا مجرد منتجين، بل شركاء في حماية بيئة الوطن.
وأنا لا أكتب هذا النص اليوم لمجرد التوثيق، بل لأقول إن من يُصغي لهمس النحلة سيُحسن فهم ما تقوله الطبيعة. وإننا في المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي نؤمن بأن لكل غرسٍ قصة، وأن نحلة المانجروف ليست مجرد مشروع، بل حكاية وطنية تُروى على لسان الساحل، وتحفظها الأجيال القادمة بوصفها نموذجًا للتنمية التي تنمو من الأرض ولا تُثقل عليها.