الأسهم... وبيت الأحلام
في ركنٍ من أركان وحدة الغسيل الكلوي، حيث تصطفّ الأسرة البيضاء كأنها محاريب انتظار، ويتصافح المرضى كل صباح مع آلات الغسيل الدموي كما لو كانت رفقاءهم الأوفياء في معركة الحياة، وقفت أراقب الشاشة التي تعرض العلامات الحيوية للحاج ”أبو علي“.
كانت الأرقام حمراء... كأنها تصرخ وتستنجد.
اقتربت منه وسألته:
- ”حجي أبو علي، ضغطك مرتفع... سلامات. هل عدت لتناول الملح مع الطعام؟ لقد حذّرتك مرارًا.“
أدار وجهه نحو شاشة التلفاز المثبّتة على الجدار، وأشار بإصبعه المرتجف نحو أسفل الشاشة، حيث يمتد شريطٌ أحمر يتحرك ببطء، كجراحٍ مفتوح لا يندمل.
قال بصوتٍ فيه حرقة:
- ”ليس الملح يا دكتور... إنه هذا الشريط... الأحمر القاتل.“
لم أفهم... فقلت:
- ”أي شريط؟“
قال:
- ”شريط الأسهم... مضى عليه أسبوع وهو يهبط بلا رحمة. كيف لا يرتفع ضغطي؟!“
توقّفت لحظة وسألته بدهشة:
- ”هل لديك أسهم؟“
ابتسم بسخرية، وقال:
- ”ومن في هذا البلد لا يملك أسهماً؟ حتى أنت يا دكتور، لا بد أن لك نصيباً في السوق!“
ثم تابع بنبرة تختلط بين المزاح والوجع:
- ”لقد وضعت كل أموال تقاعدي فيها. كل حلمي هناك... والآن كل شيء ينهار. ألا يستحق هذا أن يرتفع ضغط دمي؟!“
من الجهة الأخرى من القاعة، جاء صوت ”أبو خالد“ متدخلاً بنبرة الملامة:
- ”يا أبو علي، ألم أقل لك أن تسحب أموالك؟ السوق ينهار وأنت لا تسمع!“
رد أبو علي بعصبية مشوبة بالقهر:
- ”لن أسمع كلامك ولا كلام أحد! أريد أموالي... أريد حلمي أن يعود!“
حاولت أن أهدئه:
- ”اهدأ، يا حجي، كل الخسارات يمكن تعويضها... إلا الصحة.“
تركت أبا علي برهة، واتجهت نحو أبي خالد.
- ”كيف حالك اليوم؟“
- ”الحمد لله... لكن أرجوك، حاول أن تقنع أبا علي. السوق ينهار منذ أسبوع، لم نرَ الشريط الأخضر حتى في الحلم.“
سألته:
- ”ومن أين لك هذه الثقة؟“
قال بثقة العارف:
- ”من ديوانيتي، كل ليلة نجلس، ونتبادل الأخبار. قبل شهر، جاءنا صديق خبير في السوق وقال: «اسحبوا أموالكم... الانهيار قادم»، كثيرون سخروا منه، وقالوا: «ألا ترى الأرباح؟ كيف نخرج الآن؟!» لكنه أصرّ: «أنا متأكد مليون في المئة».“
تنهد وقال:
- ”أنا صدّقته، وسحبت كل أموالي، حتى آخر ريال. أما غيري... فغلبه الطمع.“
ثم تابع بنبرة صافية:
- ”الحجي أبو علي رجل طيب، لكنه حلم كثيراً... وربما أكثر مما تحتمل الأسواق.“
وعدته أن أحاول معه لاحقًا.
- - -
في الجلسة التالية، دخل أبو علي بخطوات مثقلة، كأن كل خيبةٍ سكنت في قدميه، وكل حلمٍ مكسور يتدلّى من كتفيه.
اقتربت منه بلطف وقلت:
- ”لا تزال هناك فرصة، حجي، اسحب ما تبقى من أموالك... حافظ على الباقي.“
نظر إليّ بعينين تائهتين وقال:
- ”هل ستعوضني أنت؟ هل سيعوضني أبو خالد؟“
ثم هدأ قليلًا، وتغير صوته فجأة، كأنه طفل يتحدث عن لعبته الضائعة:
- ”وضعت أموالي لأبني بيتًا... كنت أريد بيتًا كبيرًا، ثلاث طوابق، ست شقق، كل ولد له شقة... نعيش معًا. كنت أريد أن أراهم، أفرح بزواجهم، أرى أحفادي يركضون في فناء البيت... هذا كان حلمي يا دكتور...“
سقطت دمعة صامتة من عينه، تاهت على خده، ثم هبطت على شرشف السرير كأنها وشمٌ أبدي لحلمٍ لم يكتمل...
تركتُه بصمت ثقيل، وعدتُ إلى أبي خالد، قلت له:
- ”أبو علي كان لديه طموح... لكنه خسر كل شيء.“
هزّ أبو خالد رأسه وتمتم:
- ”الله يعوّضه خير...“
- - -
وفي السادس والعشرين من فبراير عام 2006...
انكشفت الكارثة.
في ذلك اليوم، هوت السوق كما لم تهوِ من قبل.
وحدث ما لم يتصوّره أحد.
بعد ثلاثة أيام، دخل أبو علي... لكن هذه المرة لم يكن هو.
كان جسدًا يسير بلا ظل، وصوتًا بلا حياة، وقلبًا تُرك في سوقٍ لم يرحم.
اقترب، لم يتكلم...
دمعة أخرى سقطت، بصمتٍ مهيب.
ثم قال:
- ”تبخّر كل شيء يا دكتور... حتى حلمي.“
وصمت.
وصمتت معه غرفة الغسيل...
حتى الأجهزة لم تعد تصدر صوتها المعتاد، كأنها اختارت الحزن معه، ووقفت دقيقة صمتٍ على أطلال بيتٍ لم يُبنَ.