القراءة الرقمية وتآكل الدماغ
هل يمكن للأدمغة أن تتآكل بالفعل؟ وما معنى تآكلها؟
يعني مصطلح (تآكل الدماغ) أو (تعفنه) التأثر أو التدهور التدريجي لأدمغة الناس وقدراتهم العقلية والفكرية نتيجة الاستخدام المفرط للمحتوى الهابط أو منخفض الجودة على الإنترنت، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد ازداد استخدام هذا المصطلح في السنوات الأخيرة في دلالة على مدى تأثير ذلك على الناس في أنحاء العالم. وقد قدّر قاموس أكسفورد زيادة استخدام هذا المصطلح (Brain rot) من عام 2023 إلى عام 2024 بنسبة 230%، وهو ما دفعه إلى إطلاق ”مصطلح العام“ على (تعفن الدماغ) لعام 2024. وقد توصل القاموس إلى هذه النتيجة بعد تحليله لبيانات اللغة، مع إجراء تصويت عالمي ضم 37 ألف شخص حول العالم.
ويختار عدد من القواميس العريقة والمشهورة كل عام كلمة أو عدة كلمات أو مصطلحًا ليكون كلمة العام؛ دلالة على ارتفاع مستوى تكراره في لغة ما. وقد تختلف الكلمة من قاموس لآخر حسب منهج ومعيار كل منها.
ولا يُعد هذا المصطلح جديدًا؛ حيث كان أول من استخدمه مصطلحًا (حتى قبل ظهور الإنترنت) وتحدث عنه الفيلسوف الأمريكي هنري ثورو (1817-1862 م) في كتابه المسمى والدن (Walden). والكتاب هو بمنزلة سيرة ذاتية للكاتب، أورد فيه انتقادًا لميل المجتمع إلى التقليل من قيمة الأفكار الكبيرة أو المعقدة، وهو ما يعني انحدارًا عامًّا في الجهد العقلي والفكري. لكن هذا المصطلح بُعث من جديد مؤخرًا ليأخذ نفس المدلول، لكن لأسباب أو أدوات مختلفة؛ وهي تصفح واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والقراءة الرقمية منخفضة الجودة.
ولا يمكن عد هذا الأمر ثانويًّا في السنوات الأخيرة؛ لكونه ترك تأثيرات لا يمكن إنكارها على الناس، تمثلت في ضعف تركيزهم وقدرتهم على التحليل والتفكير النقدي؛ نتيجة لإدمان مطالعة وقراءة المحتوى الرقمي المتدني المستوى. فالتركيز على مقاطع الفيديو القصيرة مثلًا (مثل الريلز أو الشورت) أوقاتًا طويلة يمكن أن يفقد مطالعها التركيز أو القدرة على قراءة أو فهم واستيعاب الأفكار الكبيرة في الكتب وغيرها. ولا يتوقف تأثير هذه الأمور على الأدمغة سطحيًّا بل يمتد إلى التأثير العميق طويل الأمد.
وتشير الدراسات إلى أن ما يذكر عن تآكل الأدمغة ليس محض توقع أو تصور استباقي لما يمكن أن يحصل في المستقبل، بل هو واقع نعيشه تقول عنه الدكتورة مناهل الثابت، التي تعمل بروفيسورة زائرة في (إمبريال كوليدج) في لندن: ”أظهرت الدراسات أن الترددات الدماغية تصبح غير متوازنة مع التعرض الطويل للمؤثرات الرقمية المشتتة، مما يؤدي إلى تدهور قدرة الدماغ على معالجة الأفكار والمشاكل بشكل منظم“ (جريدة الرياض 18 ديسمبر/كانون الأول 2024 م). وتضيف - بناء على عملها لأكثر من ثمان سنوات -: ”خلال عملي مع مئات الأفراد لاحظت الفارق الجوهري بين الأدمغة التي استطاعت التحرر من قيود الإدمان الإلكتروني وتلك التي تأثرت سلبًا“. ”في السنوات الأخيرة، أظهرت الأبحاث العلمية أن الإدمان الرقمي يمكن أن يُحدث تغيرات جذرية في بنية الدماغ البشري. دراسة نشرتها مجلة (Nature Communications) في عام 2022 كشفت أن التعرض المفرط للمحتوى السريع على تطبيقات مثل“ تيك توك ”و“ سناب شات ”يُضعف الروابط العصبية المسؤولة عن التركيز والتفكير العميق. وفقًا للدراسة، فإن المستخدمين الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يوميًّا على هذه المنصات يظهرون انخفاضًا بنسبة 30% في كفاءة الذاكرة قصيرة الأجل، بالإضافة إلى تراجع قدرتهم على الاحتفاظ بالمعلومات وتحليلها“ (المصدر السابق).
وتتعدد أساليب علاج هذه المشكلة، لكن أبرزها يتمثل في توفير خيارات قرائية مناسبة للجيل الجديد، وزيادة المحتوى العربي الهادف، ثم توجيههم بشكل خاص لقراءة المواد النافعة. هذا النوع من التوازن بين استخدام المحتوى الرقمي المنخفض الجودة والقراءة الجادة هو ما يمكن أن يحافظ على أدمغة الناس، خاصة الناشئة منهم، من التآكل.