آخر تحديث: 11 / 6 / 2025م - 4:07 ص

حيرتني يا أبَا مِرَّةَ

ياسر بوصالح

نعم، لقد حيّرتني يا أبَا مِرَّةَ. راودتني من أجلك أمنية دراسة علم النفس، علّني أتمكّن من الغوص في أعماقك وتحليل خلجاتك النفسية، لكن حتى لو تحققت تلك الأمنية، فإن علم النفس يبقى مختصًا بالبشر دون عالم الجن، فكيف السبيل إلى فك رموزك؟

ومن هنا، فقد كان لافتًا أن الدكتور موفق العيثان قد حاول تفكيك رموز هذا الكيان في كتابه «الميزان في تشريح الشيطان» عبر دراسة نفسية موسعة، متعمقًا في كشف خبايا كبريائه العجيب. هل يمكن لهذه الدراسة النفسية أن تفتح لنا أفقًا جديدًا في فهم شخصية إبليس، أم أن تعقيده يظل أبعد من أن تحيط به نظريات البشر؟

وربما يعود تجذر هذه الفكرة في مخيلتي إلى تأمل مسيرة حياتك منذ لحظة نشوئك، هي تلك اللحظة الفاصلة التي قلت فيها ﴿أأسجد لمن خلقت طينًا؟ ، بعد عبادة امتدت لآلاف السنين رفعتك من كونك جنيًا بسيطًا إلى أن تكون في مصافّ الملائكة.

تُرى، هل كان قرارك الحاسم بعدم السجود نتيجة تفكير عميق، أم وليد اللَّحْظَةِ وَرْدَةٌ فعل كما يُقال؟

القرائن تفيد عكس ذلك. فمن قولك ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، يتضح أنك تملك خارطة طريق، بل ولديك مخطط بعيد المدى لترصّد بني آدم وإغوائهم وصرفهم عن الطريق المستقيم.

لا، بل أكثر من ذلك. لقد مارست فن التفاوض قبل أن يُدوّنه مايكل ويلر في كتابه، حين قدّمت التماسًا قانونيًا لإعادة النظر في أمد التفويض حتى يوم يُبعثون، وكانت تلك مناورة سياسية محسوبة، وكأنك تستند إلى مبدأ الاستمرارية غير المحدودة، لكن الرد الإلهي جاء بإعادة ضبط صلاحياتك ضمن إطار زمني صارم إلى اليوم المعلوم، حيث تنتهي الامتيازات، ويُنفّذ فيك الحكم النهائي بلا استئناف، وكأنك وقّعت على اتفاقٍ لا يقبل الطعن ولا مراجعة بنوده.

لكن تعود حيرتي معك مجددًا… كيانٌ مثلك، بهذا الدهاء ومراكمة التجارب عبر عمر طويل من الحيل والمكر، هل يمكن أن يأتي أحد من البشر بصنفٍ جديد من الحِيَل لم يصل إليه نظام تحديث App Store لديك؟ أم أن كل محاولات بني آدم لا تعدو كونها مجرد Retweet أو إعادة تدوير لأفكارك الأزلية؟

بتعبير الخوارزمي:

وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الدهر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي

التاريخ حافلٌ بأشخاصٍ نافسوك في الجرأة، بل تفوّقوا عليك بأساليبهم الخاصة! ففرعون رفع راية الألوهية بأسلوبٍ استعراضيٍّ مترف، محاطًا بالمواكب والكهنة، وكأنه يُدير حملةً تسويقية لعظمته، بينما فضّل نمرود الأسلوب الفجّ، متصرفًا وكأنه في تحدٍّ شخصيٍّ مع المنطق ذاته، يخوض معاركه باندفاعٍ أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة. كلٌّ منهما قدّم نسخته الخاصة من الطغيان، لكن كما هو الحال مع من يبالغ في رفع السقف، كانت نهايتهما سقوطًا مدويًا لا يخلو من السخرية.

ولا أدري، هل كانت تلك البدعة من بنات أفكارهما، أم أنها مجرد بدعةٍ خاصةً بهما لم ينالا منك فيها أيَّ استشارةٍ احترافية.

لكن أبا مِرَّةَ يبدو بارعًا في التملص من التبعات القانونية، حيث جاء تصريحه الرسمي يوم الحساب ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ بل يظهر في آية أخرى بمهارة التبرؤ الدبلوماسي حين قال

﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

إبليس ليس كيانًا يتراجع، بل متلاعب يضع قواعده الخاصة، حتى حين يدرك حتمية سقوطه! فلا أدري عن قوله ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، هل قالها استهزاءً أم حقيقةً؟! هل هي محاولة لإثبات حياد قانوني، أم مجرد تورية دبلوماسية تُحسب له في ملف النزاعات الكونية والمناورات الكبرى؟ أم تراها لحظة كشفٍ عن حقيقة دفينة في نفسه، يخشى الله في أعماقه، لكنه رغم ذلك، اختار طريق التمرد والكِبَر؟

ختامًا... Mr. IBLEES, أو أبَا مِرَّةَ، ظاهرة جديرة بالتأمل! فهو ليس مجرد كيان شيطاني، بل هاكر وجودي بامتياز يواكب التطور البشري! وما كتبته أعلاه ليس إلا محاولة متواضعة لإثارة دفائن العقول، لذا أنصح القارئ العزيز حين يقرأ الآيات والروايات التي تتعلق به أن يضعها في الخلاط الفكري، فحتماً ستخرج لنا المزيد من الأفكار، لا سيما ذلك الإصرار المستمر على الاستكبار، رغم يقينه الداخلي بالهزيمة.