جوهر الإنسان «2»
البعد المعرفي والقدرة على التفكير بروية وحكمة والنظر في عواقب الأمور والاتجاهات المحتملة هو جوهر الإنسان وعمق شخصيته، والبعد والوجه الآخر للجوهر الإنساني هو جمال التصرفات العملية على أرض الواقع والناجمة عن تلك التصورات الراسخة في النفوس الطيبة، فالفضائل والأخلاق الحميدة يعبّر عن الضمير اليقظ الذي يصاحبه في طريق اكتساب الكمالات ويحرسه من السقوط في أتون الرذائل والنقائص، فالعقل الواعي والضمير الحي يدفعان الفرد في ميادين الحياة للتزوّد بالقيم والتمييز بين نقاط الخير ونقاط العيوب المسوّدة لصحيفة سجله، فالجانب النظري لوحده لا يكفي في إجلاء حقيقة الإنسان والتعريف عن جوانبه الشخصية، فكم من لسان ينطق بالحق ويصدر منه الكلمات الرائعة والتصورات الجميلة للأحداث والخطوات اللازمة في خط العلياء والتألق، ولكنه على أرض الواقع شخصية أخرى يختفي منها قوة المناعة والحصانة والإرادة اللازمة للتوقف عن أي ممارسة أو تصرف يعود عليه بالخسارة والندامة، فالمواءمة بين الفكر الواعي والجانب التطبيقي معا هو عماد التقييم الحقيقي للفرد، فكل العبارات الرنانة عن الصبر والنفس الطويل وثماره في حياة الإنسان لن تعطي القيمة الحقيقية له ما لم يكن له نصيب في أرض الواقع والشعور بجماله بعد معاصرة الضغوط الحياتية، والعدل - كقيمة أخلاقية رفيعة - لا يمكن استشعار جمالها بالتعبيرات الدقيقة عن معناها وتأثيرها، ما لم تكن تطبيقا نمارسه على مستوى علاقاتنا الأسرية والاجتماعية بالحفاظ على حقوق الآخرين.
وسيرة العظماء تجلِّ واضح لهذه الحقيقة وذلك من خلال الجمع بين الفكر الراقي البارز في كلماتهم والحكم الصادرة منهم، وبين سيرة نضّاحة بالمعاني السامية والمفردات الأخلاقية الحسنى وجامعة لكل الكمالات الفكرية والقيم الإنسانية النبيلة، وحينما نمعن النظر في مدى تأثيرهم وجاذبيتهم للنفوس واتخاذهم قدوة ونموذجا يُحتذى به، نعلم بأنهم امتشقوا قمم الهمم العالية والكمال الإنساني في أعلى درجاته من الطهارة النفسية والبصيرة الثاقبة، فجلالة القدر والهيبة ليست نتاجا إلا لسيرة هادفة ومعطاءة وملأى بكنز القيم العالية، فمبحث دراسة حقيقة الإنسان ومنهجه في طريق إثبات الوجود وتعزيز مكانته ينطلق من قراءة واعية ودقيقة لسيرة من كتبوا بأحرف ذهبية معالم الإنسانية النبيلة والعالية، فكل حقبة زمنية تحمل في طياتها التحديات والصعاب الفكرية والسلوكية والأزمات الحياتية، والناس تتجه بوصلة بحثهم نحو تلك الشخصيات المتألقة لإعادة ترتيب أوراق حساباتهم ومشاكلهم وقراراتهم، وهذه الخطة العلاجية لأي أزمة هي الجمع بين العقل الواعي وتسليمه زمام الأمور بعيدا عن الانفعالية والأهوائية، والعمل الجاد والمتزن والمتصف بالأخلاق الحميدة هو معيار توصيفي لشخصية الفرد تحت مجهر التقييم، حيث يحافظ الإنسان حينئذ - في كل ما يصدر عنه - على جمالية عقل رشيد وسلوك نزيه من المعايب.