آخر تحديث: 11 / 6 / 2025م - 4:07 ص

الاصطفاء في زمن المتغيرات

ياسين آل خليل

نحن نعيش زمنا استثنائيا تتسارع فيه المعايير وتُقلب فيه الموازين، يحتاج الإنسان إلى لحظة تبصُّر، يتأمل فيها ذاته لا مرآته، ويراجع فيها ما في قلبه قبل أن يحصي ما في يده. فليس كل رزق يُرى، ولا كل غنى يُقاس، ولا كل نجاح يُحتفى به هو نصر حقيقي.

وسط هذا الزحام، يتوهم البعض أن المال وحده عزّ، أو أن الدهاء مفتاح النجاة، أو أن العلم في ذاته عاصم من الزلل. لكن الحقيقة الساطعة التي تغيب عن أعين الكثير، هي أن الإنسان يُختبر في هذه الحياة بما لا يُشترى ولا يُصنَع، يُختبر بالخُلق.

الخلق الكريم ليس ترفًا في زمن المادة، بل هو ضرورة تحفظ للمرء إنسانيته حين تتآكل القيم من حوله. هو الحصن الداخلي الذي يقيه من السقوط، والبوصلة التي ترشده حين تضلّ السبل. من وُهب حسن الخلق فقد نال أرفع درجات الاصطفاء، لأن الله لم يربط الكرامة بالمال، ولا العلم، بل بالجوهر النبيل الذي يضبط سلوك الإنسان متى ما اختلت الدنيا من حوله ولم يعد هناك قيمة لكل المكتسبات.

نحن لا نُحاسَب على ما نملك، بل على ما نكون. فالعلم من دون أدب قد يصنع غرورًا، والمال من دون تقوى قد يُنتج طغيانًا، والمكر بلا رحمة قد يُفضي إلى تدمير الذات قبل الآخرين. أما الأخلاق، حين تُؤسَّس على عقيدة صلبة، فإنها ترفع صاحبها فوق كل اضطراب، وتمنحه صفاءً وسط الضجيج.

لكن مع كل هذا علينا أن نعترف، إن الحديث عن الأخلاق في زمن الصراعات المادية ليس سهلًا. فالعالم اليوم يُكافئ النتائج لا المبادئ، ويصفق للبراعة أكثر مما يحتفي بالنبل. ومع ذلك، فإن من يظن أن الأخلاق باتت ترفًا، لم يدرك بعد أن الأمم لا تنهض بالصناعة والتقنية وحدها، بل بثقافة السمو والضمير الحي. وما أكثر الذين بلغوا القمة بأقدام غيرهم ثم سقطوا لأنهم افتقروا إلى ما يُبقيهم هناك، الإنسانية والأخلاق الكريمة، والاحترام والنُبل.

فيا من ضاقت عليهم السبل، وتكسّرت في أيديهم المعادلات، لا تبحثوا في الخارج عن مفتاح الحياة، بل انظروا في دواخلكم. أصلحوا نواياكم، وهذّبوا أخلاقكم، وازنوا بين ما تملكون وما تستحقون. فإن فعلتم، سرتم في طريقكم مطمئنين، لا تُرهقكم تقلبات الزمان، ولا تُضللكم أضواء السراب.

الحياة ليست سباقًا إلى الامتلاك، بل رحلة نحو الاكتمال. ومن سار على هدي الأخلاق، وصل، وإن تأخر. ومن خالفها، تعثّر، وإن سبق.