آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 11:14 ص

الكرسي المحجوز

هاشم الصاخن *

في مجلس عزاء، أو محاضرة دينيَّة، أو مناسبة اجتماعيَّة، أو احتفال مدرسي، أو مسجدٍ من مساجد الجماعة... يدخل أحد الرِّجال أو إحدى النساء باكرًا، بحثًا عن مقعد شاغر، أو مكان في أحد الصفوف الأولى للصَّلاة أو الجلوس.

تلمح الكرسي من بعيد يبدو خاليًا، فتتجه نحوه، لكن ما إن تقترب حتَّى تتفاجأ بمنديل، أو عباءة، أو عقال وُضع بعناية... وأحيانًا تجد طفلًا صغيرًا يجلس وحده على الكرسي، لا لحضور ولا لاستفادة، وإنَّما فقط ليحجز المقعد لأحدهم.

ثمَّ تأتيك نظرة، أو إشارة يد، تُخبرك بكلِّ هدوء: ”المكان محجوز“. فتتراجع بصمت، وتقول في داخلك: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله.

ليس لأنَّك تأخرت؛ بل لأنَّك حضرت باكرًا، ومع ذلك حُرمت من الجلوس.

في تلك اللحظة العابرة، تقف الحكاية على مفترق تأمل:

هل ما جرى أمر طبيعي؟

هل من حقِّي أن أضع شيئًا وأحتجز مقعدًا لساعات؟

هل الكرسي في المجلس العام ”ملك شخصي مؤقت“ لمَن حضر قبلك... أم لمن جلس عليه فعليًّا؟

هل يحق لي إشغال طفل لا يدرك المقام ولا الحدث، فقط ليؤدي دور الحاجز الصَّامت؟

ثمَّ لماذا نتعامل مع الأماكن العامَّة وكأنَّها مساحة خفيَّة لتثبيت النُّفوذ؟

وهل فقدنا الشُّعور بالآخرين حين لا نراهم... حتَّى وإن كانوا خلفنا ينتظرون مكانًا؟

هذه الظَّاهرة - على بساطتها - بدأت تتكرر كثيرًا، حتَّى صارت مألوفة في كثير من المجالس؛ بل في أكثر الأماكن التي يُفترض أن تسودها الروحانيَّة والخشوع؛ كمجالس العزاء، والمحاضرات الدينيَّة، وصلوات الجماعة، والمناسبات العامَّة التي يُنتظر فيها أن نتعامل بسواسيَّة لا بتمييز.

الكرسي بات رمزًا خفيًّا للمكانة، أو وسيلة لفرض الأسبقيَّة، حتَّى ولو لم يكن صاحبه حاضرًا بعد. والمشكلة لا تقف عند حدِّ ”حجز الكرسي“؛ وإنَّما تتعداها أحيانًا إلى خلق توتر صامت داخل المكان؛ فكم من شخص حضر مبكرًا، وجلس في الخلف، أو ظلَّ جالسًا على الأرض وهو يعاني من أمراض صحيَّة أو عضليَّة، وقد يزداد تعبه كلما طال جلوسه أو تأخر حصوله على مكان مناسب، أو بقي يتنقل بين الزوايا علَّه يجد موضعًا يستقر فيه؛ لأنَّه احترم النظام أو استحى أن يرفع شيئًا لا يخصه، ولم يقل للطفل: ”انزل من على الكرسي“، ولم يُزح عقالًا وُضع أمامه، ولم يلمِّح بأي إشارة تدل على أنَّ المكان من حقِّه، حتَّى لو بدا خاليًا.

اختار أن يتراجع بصمت، لا لأنه لا يملك حقَّ الجلوس، بل لأنَّه لا يريد أن يفتعل موقفًا محرجًا، أو يدخل في جدال مع من اعتاد أن يأخذ أكثر مما يُفترض أن يأخذ.

ونحن هنا لا نتحدَّث عن كبار السن أو المرضى الذين تُراعى حالتهم الصحيَّة ويستحقون أن يُقدَّم لهم المكان، فهؤلاء لهم اعتبار خاص، ومن الأفضل - أيضًا - أن يأتوا باكرًا إن استطاعوا، لكننا نعلم أنَّ ظروفهم تختلف. وحديثنا موجَّه لمن هو سويّ ومعافى؛ لكنه يُمارس الحجز باسم الغياب، وكأنَّ له حقًّا دائمًا في المكان.

ونتحدث تحديدًا عمَّن لم يأتِ أصلًا، ولا يزال في الطَّريق، أو ربما لم يخرج من بيته بعد... بينما مكانه محجوز، وكأنَّ الكرسي ينتظره وحده!

حتَّى في أماكن الصَّلاة، كمواقع الصفوف الأولى، فليس هناك ما يُعطي شخصًا أفضليَّة على غيره بالحجز المسبق؛ فالمكان في المسجد لله «تعالى»، ومن حضر فهو أولى به، والحجز لشخص غائب - من دون سبب شرعي - يُعدّ تعدّيًا على مَن جاء في وقته.

وهنا يتحوَّل الجلوس إلى ”امتياز“ لا علاقة له بالحضور، ويتحوَّل الغائب إلى صاحب أولويَّة، والحاضر إلى متفرج ينتظر أن تُنهي السبحة أو المنديل وظيفتها.

إنَّ هذا النَّوع من التصرفات لا يؤذي بالجسد، لكنه يُتعب النَّفس، ويزرع شعورًا بأنَّ الاحترام لا يجدي، وأنَّ النظام لا يُكافأ، وربما يكون عبئًا على من يتمسك به.

وهناك من يخرج من المجلس أو المسجد بانطباع سيئ، ليس بسبب مضمون المجلس أو ضعفه؛ ولكن بسبب تصرُّف فردي سلب منه راحته وأفقده التَّركيز.

ثمَّ لا ننسى تلك الصورة التي تُرسم في أذهان الصغار، حين يُطلب من الطفل أن يجلس مكان الكبار ليحجز لهم، من دون أن يدرك هو لماذا، أو ما معنى أن يكون ”كرسيه“ أقوى من غيره؛ فالطفل حين يرى هذه الممارسات يتعلَّم - من دون أن يُقال له - أنَّ الذكاء يعني أن تسبق، لا أن تحترم، وأنَّ الحيلة قد تكفيك عن الحضور المبكر، وأنَّ النَّاس يُقسَّمون داخل المكان الواحد... رغم أنَّهم يبدون متساوين من الخارج. والحقيقة أنَّ الأماكن العامَّة لا تُدار بالذكاء الفردي؛ بل بحسن التَّصرف، ومراعاة المشترك، والشعور بالآخر.

والمناسبات التي تُقام باسم الدِّين، أو الأخلاق، أو المحبَّة... لا تليق بها تصرفات تحمل في طيَّاتها تهميشًا صامتًا، أو استحواذًا متذاكيًا.

هناك فرق كبير بين أن يكون المكان فارغًا فتجلس فيه، وبين أن تفرغه للناس ثمَّ تضع عليه رمزًا يقول: ”ابقوا بعيدًا، هذا لي“.

الوعي بمثل هذه التصرفات لا يُفرض بقرار، ولا يُعالج بمنشور. ويبدأ منَّا نحن، حين نُدرك أنَّ الكرسي في المجالس العامَّة ليس ملكًا لأحد، وأنَّ الأحق به هو من حضر، لا من حُجز له. وما نُمارسه بصمت اليوم قد يتحوّل إلى عرف غدًا، فإمَّا أن نُرسِّخ الإنصاف، أو نُكرِّس التَّمييز.

وفي نهاية المطاف لا بدَّ من التنبيه إلى حقيقة أنَّ احترام النِّظام يبدأ من التَّفاصيل الصَّغيرة، وأوَّلها: ألَّا نأخذ مكانًا قبل أن نأخذ موقعنا بالفعل.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
مهدي سويد
31 / 7 / 2025م - 1:13 م
أنا شخصيا حضرت كم مناسبة وجلست على الأرض رغم آلام الظهر بس استحيت أطلب من طفل ينزل. شكرا للكاتب لأنه عبر عن أشياء كثير من الناس تكتمها.
2
عقيل علي
31 / 7 / 2025م - 4:19 م
أحترم أسلوب الكاتب في الطرح لكن تمنيت يشير لمبادرات إيجابية أو أماكن واجهت المشكلة بحلول تنظيمية. طرح المشكلة لازم يرافقه تصور للحل.
3
آمنة
[ تاروت ]: 31 / 7 / 2025م - 8:31 م
الكراسي ما هي ورث ولا عزبة شخصية. احترام الغير يبدأ من أبسط الأمور
4
جعفر مدن
31 / 7 / 2025م - 11:41 م
مقال جميل بس السؤال: منو يجرأ يوقف هالسلوك؟ حتى لو وضعت لوائح في ناس تعتبر الحجز “عرف”. كيف نغير العرف؟
5
ليلى المحسن
[ القطيف ]: 1 / 8 / 2025م - 9:06 ص
أسلوب سلس ومقنع لكنه طرق بابا أوسع: كيف نعلم الناس الفرق بين الذكاء الاجتماعي والتحايل على النظام؟ أعتقد أن الجواب يبدأ من التربية في البيت.
سيهات