دكان حينا يجمعنا
لم يكن دكان الحاج: ”أبو كريم عوجان“ يرحمه الله في حي الحوامي الشعبي مجرد دكان أو بقالة يباع فيه مختلف المواد الغذائية المعلبة والمثلجة وغيرها، بل كان بمثابة القلب النابض لذلك الحي، حين كان القلب يبتسم لأبسط الأشياء، وكان الحي مكاناً جميلاً بأزقته الترابية التي تتعانق فيها الأرواح قبل الأجساد.
الطعم اللذيذ الذي تتميز به أغراش البيبسي والميرندا والتيم من شركة أحمد حمد القصيبي كانت تحلي كعداتنا الحلوة في ذاك الدكّان العتيق الملتصق ببيتهم، وكان ذلك الدكان حاضناً وملاذًا للكبار قبل الصغار، وبرزت فيه موهبة فن النجارة التي كان يتقنها الحاج: ”أبو كريم“ في عمل الرفوف الخشبيّة والكرسي الطويل المغطى بكيس الخيشة الذي كنا نجلس عليه، حيث كانت جلساتنا تشهد كل يومٍ على قصصٍ من البساطة والكرم في المكان.
كان مصروفنا عدداً قليلاً من القروش تمسكه أيدٍ صغيرة، وعندما ندخل الدكان نحتار ماذا نشتري بعينين تلمعان من الفرح، ويا له من فرحٍ حينما نفتح الثلاجة، ونمسك بغرشة البيبسي مع علبة بسكويت محشوة بجوز الهند التي تذوب في الفم وتوقظ الحنين، لحظات سعيدة تزينها الألوان والروائح التي تفوح من خد العروسة، وعلكة السهم، وحلوى المصّاص وغيرها، وضحكاتنا تصنع لوحاتٍ لا ترسمها ريشة فنان بل ذاكرةُ الزمن الجميل.
ما أجمل الأمثال التي كانت تلوكها ألسن كبار السن أمام باب الدكّان: ”الجار للجار“ و”الجار قبل الدار“، و”من جاور السعيد يسعد“، فقد كان الجوار يعني كل شيء وكان الحاج: ”أبو كريم“ لا يكتفي بالبيع، بل كان يوزّع حكمة الأمثال كمن يوزّع كأس الآيسكريم من مصنع المطرود للألبان من الثلاجة في ركن الدكّان، التي كانت فيها رفاهية المثلجات: عصيرات، ومختلف أنواع الايسكريمات الذي يتسيدها آيسكريم ”البوظة بالشكولاتة المحمولة بالعود“ التي تُخرجها ويدك ترتجف من برد الثلاجة والفرح.
الصور القديمة التي نحتفظ بها تذكرنا بدهاليز الزمن الجميل مع أصدقاء الطفولة والصبا في حينا الشعبي ”الحوامي“، هذه الصور تذكرني بطفولتي فتهيج مشاعري شوقاً إلى أيام براءة الطفولة وذكرياتها التي تختلج بالفؤاد وتضرب به يمنة ويسرة، فيشتاق إلى رؤية تلك الوجوه التي كانت معنا لكنها غادرتنا دون رجعة يرحمهم الله.
لقد كان دكّان حينا مكانا جميلاً يجمعنا، ونرى فيه تفاصيل الوجوه ودفء العلاقات بين أبناء الحي، حيث أن جمال المكان وعفويّة الزمن لا أحدً يسأل عن الساعة، لكن صوت الأذان في المسجد المقابل للدكان يذكرنا بوقت الصلاة، فنترك المكان ونذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، والمعروف أن الذكرى لا تموت، بل تحفظها الذاكرة كما يحفظ الطفل رائحة أمه من بين عشرات الأمهات.
ختاماً: إن الأمثال التي كانت تلوكها الألسن زمن الطيبين أمام باب دكّان الحاج: ”أبو كريم“ قد انتهت! ولم يكن للمثل المشهور: ”الجار قبل الدار“ معنى في يومنا هذا! بعد أن قبلنا للعمالة الأجنبية أن تجاورنا بالسكن في أحيائنا التي قضت على خصوصيات العوائل وعلى العادات الجميلة بين الناس في الأحياء.