تقبّل الموت
الكثيرون قد رحلوا عن دنيانا، ولا يزال قطار الموت يواصل عبوره، يخطف الأرواح بصمت لا يستأذن أحدًا. فمنّا من ينتظر دوره، ومنّا من يترقب مصيره. هي الدنيا، بكل زخرفها وصخبها، ليست أكثر من محطة قصيرة وجسر عبور إلى الآخرة، حيث الحياة الحقيقية التي لا فناء فيها.
قِلة فقط من تدرك أن هذه الحياة مرحلة مؤقتة، وأن الموت ليس نهاية، بل بداية لحياةٍ أخرى. هذه الفئة القليلة تنظر إلى وجودها الأرضي بوعي، وتفهم أن الرحيل قادم لا محالة. وكم من عزيزٍ فقدناه، وكم من حبيبٍ ننتظر وداعه الأخير. فالموت، ذلك الحدّ القاطع الذي لم تقف أمامه عظمة الجبابرة ولا هيبة السلاطين، يبقى أكبر قاهر للإنسان، مهما بلغ من قوة.
لكن المأساة ليست في الموت ذاته، بل في من لا يتّعظ به، ولا يجعل منه تذكرة. لا يزال الكثير من الناس يعيشون في غفلة، يمارسون الطغيان والمعاصي دون وازعٍ من ضمير أو رقيب. يتصرّفون وكأن الموت لا يخصهم، وإن أتى، فمرحبًا به! لا مبالاة متجذّرة، تُظهر كيف يمكن لإنسان أن يُنكر الحقيقة الكبرى التي لا مفر منها.
على الجانب الآخر، كان لبعض المفكرين نظرة مختلفة، فاعتبروا الموت تحولًا وبداية، لا نهاية. ليس حدثًا يُنهي الحياة فحسب، بل نقطة انتقال إلى عالم آخر، أكثر صدقًا. إنه جزء طبيعي من دورة الحياة، لا بدّ من فهمه واستيعابه.
والله سبحانه وتعالى كتب الموت على جميع الخلائق بلا استثناء، فهو قدرٌ لا رجعة فيه، كما قال عزّ وجل: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: آية 26.27].
والاستعداد لهذا الرحيل، لا يكون فقط في الدعاء والتسليم، بل يتطلب وعيًا عميقًا. أن نُفكّر في الموت، ونتأمّل في حقيقته، هو ما يعيننا على تقوية علاقتنا بالله، ويدفعنا نحو الخير، ويمنحنا دافعًا لنحيا الحياة بعمق وإيجابية، ونتخذ قراراتنا بحكمة.
وتقبّل الموت كجزء من هذه الرحلة الوجودية، يخفف كثيرًا من الخوف المرتبط به. لذلك فإن التخطيط، وكتابة الوصية، وتنظيم الأمور المالية، ليست مجرد إجراءات بل هي رسائل محبة لمن نتركهم خلفنا، تسهّل عليهم ما بعد الفقد، وتمنحهم بعض السكينة.
بل إن تعزيز علاقاتنا مع من نحب، واحتضان اللحظات التي تجمعنا بهم، هو أعظم ما يمكن أن نمنحه لأنفسنا ولهم. أن نترك لهم ذكرى طيبة، ودفء قلب، لا فراغًا قاسيًا. وقد عبّر الروائي أبَّكَر آدم إسماعيل عن ذلك في إحدى رواياته بأسلوبٍ فلسفيٍ نبيل قائلاً:
”الإنسان يجب ألّا يخاف من الموت طالما له أصدقاء يعرفون أحلامه ومستعدون لتحقيقها بعد موته.. الموت هو ألّا يكون لك أصدقاء يحبونك أنت وحلمك“.
وقد أمرنا الله تعالى بذلك فقال: ”كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين“.
والمعتقدات حول الموت والحياة تتباين من دين إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، لكنها جميعًا تشترك في شيء جوهري: أن الموت دعوة للتأمل. فيمن نكون، وإلى أين نمضي، وماذا نترك بعدنا.
كيف إذًا يمكن أن نواجه هذه الفكرة ونتصالح معها؟ هناك عدّة طرق عملية لتقبّل فكرة الموت:
مثل أن نخصّص وقتًا منتظمًا للتفكر في مفاهيم الحياة والموت، يساعدنا في تقليل القلق، وزيادة حضورنا الذهني، وفهمنا العميق لما نحن فيه.
وكذلك الحديث عن الموت مع الأحبة، الأصدقاء أو العائلة، يُخفف من الغموض، ويُحوّل الرهبة إلى نوع من الطمأنينة.
وأيضاً مطالعة كتب الأدب والفلسفة التي تتناول موضوع الموت، توسّع آفاقنا وتمنحنا رؤى مختلفة. فالفلاسفة والروحانيون قدّموا تأملات تُثري فهمنا.
أو تدوين الأفكار والمشاعر حول الموت في دفتر يوميات، يساعد على تنظيم ما بداخلنا، وتفريغ التوتر، ومواجهة الذات.
والأهم من ذلك الدعم الجماعي، فالمشاركة في ورش عمل أو مجموعات تتناول قضايا الموت والفقد، تُشعر الإنسان بأنه ليس وحده، وأن الألم مشترك.
وقطعاً لا بد من التفكير في الأثر، أن نسأل أنفسنا بصدق: ما الذي نريد أن نتركه خلفنا؟ ما القيم التي نغرسها؟ وما الرسالة التي نودّ أن تظل باقية؟
ولا ننسى المسائل الروحانية مثل الانخراط في الممارسات الدينية، كالصلاة والدعاء والتأمل، فهذا يقرّبنا من الله ويمنحنا راحة نفسية عظيمة.
وأخيراً يجب أن نعيش الحياة بكل طاقتنا، نستمتع بكل لحظة، نُحب بصدق، ونفرح بما نملك، فذلك وحده كفيل بتخفيف قلقنا من النهاية.
إن تقبّل الموت ليس ضعفًا، بل شجاعة. رحلة خاصة، قد تبدو ثقيلة في بدايتها، لكنها مع الوقت تتحوّل إلى نور داخلي، يجعلنا نُقدّر اللحظة، وننحني للحياة باحترام.
الموت هو المرآة التي نرى فيها صدق حياتنا، فليكن عبوره فينا باعثًا للحياة، لا سببًا للموت قبل أوانه.