آخر تحديث: 2 / 8 / 2025م - 9:45 م

بين الصُّلحِ والإصلاح

عماد آل عبيدان

هذه الأيام ليست عابرةً في الذاكرة، ولا لحظاتٍ موسمية في دفتر الأحزان، بل هي أيّامٌ تنبضُ بالدمعِ ودمِ الولاية… أيامٌ كتبها الحسنُ بسطرِ صبرٍ مُرّ، ووشّاها الحسينُ بنقطةِ دمٍ على جبين الطفّ، فصارت بين ”الصلح“ و”الإصلاح“ مرآةُ أجيالٍ ما زالت تفتّش في وجوهها عن معنى البقاء نقيًّا في عالمٍ يساومك على كل شيء… حتى على الحقّ.

في ليلةٍ من ليالي العشرة، وأنا أرتّق حروفًا لصغارٍ يسألون ببراءةٍ: ”ليش الإمام الحسن ما قاتل، وأخوه الحسين قاتل؟“، وجدت نفسي أطرق باب الطفولة في داخلي، أسألها: هل نعرف نحن الكبار أصلًا متى يُعقد الصلح؟ ومتى يُعلَن الإصلاح؟ أم أننا نهرب من الحكمة بحجة البطولة، ونهرب من البصيرة بحجة الغَيرة؟

إنّ صلح الحسن لم يكن هروبًا، بل كان أشجع قرارٍ اتّخذهُ صابرٌ يعلم أن الدماء لا تُراق لأجل العناد، وأنّ الحلم في بعض المواقف أعظم من الغضب، وأشدّ وقعًا على قلوب الجبابرة من السيوف، وهذا ما أشارت له الآية الكريمة:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]

فأي إحسان أعظم من أن تحقن دماءَ أمّةٍ تُوشك أن تُفني نفسَها بتصفيقِ الطغاة؟

وأما إصلاح الحسين، فليس تمرّدًا كما يروّج البعض، بل كان امتدادًا لصمتِ الحسن، حين لم يبقَ للسكوت معنى، ولم يعد في المدى متّسعٌ للمراوغة. قالها بصوتٍ يقطر نورًا ودمًا:

﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88].

فلم يكن مشروعًا سياسيًّا، بل صرخةَ حياةٍ في وجه موتٍ أخلاقيٍّ عام.

ومَن يظنّ أن كربلاء كانت صراع سلطة، لم يفهم شيئًا، لا من دموع زينب، ولا من صبر العليل، ولا من انكسار السيدة رقيّة في الخَرابة.

ولو جاءك اليوم من يقول: ”لو كنتُ مكان الحسن لما صالحت، ولو كنتُ مكان الحسين لما خرجت“، فابتسم بهدوءٍ، وقل له: ”لو كنتَ مكانهما، لما كنتَ أصلاً.“

فالقلب الذي ينوي صلحًا وفيه مرارة، هو قلب نبيّ.

والروح التي تخرج للإصلاح وهي تعرف أنها ستُصلب، لا تكون إلّا من معدنٍ لا يُصنع إلا في بيت فاطمة.

تأمّلت هذا وأنا أراقب ”أبو سلمان“، جارنا الطيّب، وهو يصالح حفيده على ”حبة حلوى“!

كان الطفل قد غضب لأنه لم يُشترَ له ما يريد، فبكى، ونام، ثم استيقظ فوجد جدّه عند وسادته، يبتسم وهو يقول:

”ما نرضى على زعلك يا ولدي… بس لازم تفهم، مو كل مرة تاخذ اللي تبغاه بالصياح والزعل!“

ضحكتُ من قلبي، ثم أبكاني التأمّل…

ألم يكن هذا بالضبط ما فعله الحسن؟ صبر واحتضن أمّةً تبكي وتصرخ، ثم قال لها: ”ما نرضى هلاككم… ولكن ليس كلّ شيء يُنال بالسيف.“

ثم تأملتُ وجه ”أبو ناصر“، إمامُ مسجد الحيّ، وهو يسرد مواقف عاشوراء، وتحديدًا مشهد زينب وهي تقول ليزيد: ”فكد كيدك، واسعَ سعيك…“

تلك الكلمات ليست من أدبيات الهزيمة، بل من ثقافة الانتصار بالحقّ، مهما انطفأت الأنوار حولك، لأنّ وهجَ النيّة يكفي لتضيء به طريقك حتى لو كنتَ مقيّدًا في موكب الأسر!

نعم، يا صاحبي، بين صلح الحسن وإصلاح الحسين دربٌ طويل، لا يُقاس بالزمن، بل بالصدق.

فبعض المواقف تحتاج إلى أن تكتم غضبك مثل الحسن، وبعضها تحتاج إلى أن تفتح صدرك للطعن مثل الحسين.

وكما قالت أمّ ”سلمان“ ذات مرة، حين كانت تفصل بين أولادها المتخاصمين:

”ترى مو كل صُلح ضعف، ولا كل زعل عزّه!“

ضحكنا، لكنها كانت أصدق من خطباء الساحات… فقد فهمت فلسفة الحسن والحسين بقلبها، لا بسِير الكتب.

فيا من تبحث عن طريق الحقّ اليوم… لا تنسَ أن الصلح قد يكون أقسى من الحرب، وأن الإصلاح قد يكون ألطف من العتاب، لكنّ كلًا منهما لا يُولد إلا من رحم النقاء، رحم واحد، رحم الحق.

أيام الحسن والحسين ليست ذكرى… بل دروسٌ مستمرة، نأخذ منها حلاوة الصبر، ومرارة الفقد، ونزرع بها أملًا جديدًا: أن يبقى فينا شيء من حلم الحسن، ووهج الحسين، في زمنٍ تتصارع فيه الأصوات، وتضيع فيه المبادئ تحت عنوان ”رأيي هو الدين!“

اختر صلحك بعقلٍ…

واختر إصلاحك بروحٍ…

وكن طيّبًا بينهما، كما أراد الله منك، لا كما يجرّك ضجيج البشر.