آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 10:26 ص

أمجاد

ورد أن الإمام الحسن المجتبى لما سئل: فما المجد؟

قال : «أن تعطي في الغرم، وأن تعفو عن الجرم» [بحار الأنوار ج 75 ص 102 ].

يسعى الإنسان العاقل لامتشاق قمة السمو والمكانة العالية من خلال الأهداف التي يحققها بلوغا إلى منجزات تسطّر في سجل أعماله، وهذه الأمجاد ليست وليدة لحظات عابرة أو ضربة حظ بل هي خلاصة تختزل مسيرة جادة في ميادين الحياة العلمية والعملية، وهذا الوسام يُناط بإنجازات متعددة على مستوى مختلف أبعاد شخصيته الفكرية والنفسية والمهارية والاجتماعية والأخلاقية، فإذا ما نظرنا إلى تلك الشخصية بنظرة متأنية ودقيقة سنجد نفسا قد تخلّصت من أغلال الأنا وشح النفس والمشاعر السلبية تجاه الآخرين نتيجة استفزاز أو إساءة، كما أن العطاء بمختلف أبعاده وأشكاله المادية والمعنوية تعد سمة من أصحاب المجد والرفعة الأخلاقية، كما أن الصفات الحميدة والقيم التربوية يتحلى بها أهل المجد، ولكن الإمام يشير إلى صفتين مهمتين تتعلقان بالعطاء والعفو عن المسيء، فهما تدلان على ذلك التألق الأخلاقي وضبط النفس ومشاعرها تجاه مختلف المواقف والظروف الصعبة، فالكرم يدل على مشاركة وجدانية مع المعوزين والمساهمة في تخفيف أعباء الحياة عنهم، وهم كُثر - ولله الحمد - ولكن قمة العطاء والتخلص من أسر وحب المال السلبي هو العطاء ومد يد العون للمحتاج في وقت يكون المنفق في أمس الحاجة لذلك العطاء «الغرم أي الحاجة الشديدة للمال»، ولكن نفسه تسمح بالمال لتنشيف دمعة الفقير واليتيم وذلك يمثّل قمة السعادة والسرور عندهم، هذه القامة المعطاءة تكون قد بلغت حقا قمة المجد، وفي الجانب الآخر هناك تعامل إنساني نبيل يدل على الكرم والمروءة يتجلّى عند منعطف التجاوز عليه وتوجيه إساءة له، وفي وقت ينتظر منه أن يقابل الإساءة بمثلها والكلمة البذيئة أو القاسية بما لا يقل عنها سوءا، وإذ تتحرّك في النفس رغبة في الانتقام بعد انفعال شديد ولكنه يقابلها بتهدئة وضبط يحافظ فيه على قيمه ويتجاوز هذه الإهانة بالعفو والتسامح، وهذا لا يعني أن الصفح وخلو القلب من مشاعر الكراهية والأحقاد أو استعمال أساليب التجاهل والضرب تحت الحزام يعد أمرا سهلا، بل هذا المجد نتاج تربية مستمرة للنفس وتدقيق ومحاسبة ودقة في التفاعلات والعلاقات الأسرية والاجتماعية.

النفوس الصانعة للأمجاد لا تنطلق من فضاء اللا وعي أو ضعف الإرادات وحياة الفراغ والفوضى والتيه، بل هناك دوافع ومحركات نفسية منسجمة مع الصور الفكرية المتطلّعة إلى مكانة عالية من التألق تحوز عليها، وتتآزر مع تربية توجّه طاقات الفرد وإمكانياته نحو ميدان العمل المثابر دون إغفال عن المساحة الاجتماعية والأخلاقية في النفس، فالعطاء لا حدود ولا إمكانيات مطلوبة لتحقيقه بل هو استجابة طبيعية من النفوس الكبيرة ومشاركة وجدانية تتخطّى فكرة الاقتصار على المنافع الشخصية، كما أن التخلّي عن الاستجابات العمياء لكل استفزاز للمشاعر يعني الدخول في ساحة معترك الحياة لخوض صراعات جانبية بشكل مستمر، مع ما يعنيه من التخلي عن أهداف حياتية مرسومة والإصابة بالاحتراق النفسي والاختناق العاطفي، وهذا ما يظهر معنى المجد الحقيقي المتمثّل في القدرة على كبح جماح النفس أمام الرغبات المذلة كحب المال الشديد أو انفلات عقال المشاعر، بل هو سيادة على النفس وضبط لإيقاع التصرفات وفق الحكمة والعطاء والتسامح.