آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

حين يتحول الإعلام إلى شريك في المسؤولية المجتمعية

دكتورة لمياء عبدالمحسن البراهيم * صحيفة اليوم

يوافق الخامس والعشرون من سبتمبر اليوم العالمي للمسؤولية المجتمعية، وهي مناسبة تذكّرنا بأن كل مؤسسة، وكل فرد، يتحمل نصيبه من المسؤولية تجاه المجتمع. وإذا كانت المسؤولية المجتمعية في الماضي تُقاس بمبادرات الشركات أو برامج التطوع، فإنها اليوم تمتد لتشمل الإعلام بكل أشكاله، بعد أن أصبح كل هاتف محمول منبرًا مؤثرًا، يوجّه الرأي العام، ويشكّل القيم، ويترك بصمته على وعي الأفراد والمجتمعات.

في هذا السياق تأتي خطوة الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بإعلان قائمة المحظورات الإعلامية، وهي خطوة تستحق التقدير والإشادة، لأنها تعكس وعيًا بضرورة وضع خطوط حمراء في فضاء مفتوح قد تنفلت فيه الضوابط بسهولة. فقد شملت هذه القائمة محاور أساسية: منع التنمر والاستهزاء، حماية الخصوصية الأسرية، منع استغلال الأطفال أو العمالة المنزلية، حظر الشائعات والمعلومات المضللة، تجريم الألفاظ البذيئة، منع إثارة النعرات القبلية أو الطائفية، والتصدي لأي محتوى يسيء للقيم الاجتماعية والوطنية. كما تناولت ضوابط اللباس والظهور الإعلامي بما يحفظ الذوق العام ويصون كرامة المجتمع.

هذه البنود تبدو بديهية، لكنها ضرورية. فالتجارب التي شهدناها مؤخرًا في فضاء منصات التواصل الاجتماعي كشفت كيف يمكن أن تتحول بعض المنصات إلى ساحة للتنمر والاستهزاء، أو وسيلة لاستعراض الثروة والمظاهر المبالغ فيها على حساب مشاعر البسطاء، أو منبر للشائعات التي تثير الفوضى وتضرب الثقة بالمؤسسات. وهنا تأتي أهمية وجود تشريع واضح يضبط الإيقاع ويعيد الهيبة للقيم العامة.

ومع ذلك، فإن التحدي لا يكمن في وضع القوائم وحدها، بل في كيفية تطبيقها بمرونة وعدالة. الحرية في الإعلام لا تنفصل عن المسؤولية، ويجب أن نُدرك أن النجاح الحقيقي هو في إيجاد توازن يضمن حماية المجتمع دون قتل روح المبادرة والإبداع.

التجارب العالمية تثبت هذه المعادلة. ففي بريطانيا مثلًا، أوكلت مهمة مراقبة الإعلام الرقمي إلى هيئة «Ofcom»، لكنها لم تكتفِ بالمنع، بل عملت على تشجيع البرامج التعليمية والثقافية كجزء من مسؤوليتها. وفي فرنسا، صدر قانون عام 2020 يلزم المؤثرين بالكشف عن الإعلانات المدفوعة، ليس لتقييدهم، بل لحماية الجمهور من التضليل وبناء صناعة إعلامية أكثر احترافية. أما سنغافورة، فقد واجهت الأخبار الكاذبة بقانون صارم «POFMA»، لكنها في الوقت ذاته دعمت منصات للشباب لإنتاج محتوى ثقافي يعبّر عن هويتهم الوطنية ويُظهر الوجه الحضاري للدولة.

تبرز فرصة أمام الهيئة العامة لتنظيم الإعلام: أن تجعل من هذه اللائحة نقطة انطلاق نحو منظومة أشمل، تجمع بين المنع والتحفيز. يمكن للهيئة مثلًا أن تطلق جوائز سنوية للإعلام المسؤول، بمعايير شفافة تراعي الأثر المجتمعي، والمساهمة في رفع الوعي، والابتكار في الطرح والأسلوب، وتعزيز صورة المملكة عالميًا. مثل هذه الجوائز ستضع معيار ”الإنجاز والأثر“ في مواجهة معيار ”الشهرة والضجيج“، وستساعد الجمهور على تمييز من يستحق المتابعة والتكريم فعلًا.

كما يمكن للهيئة أن تُشرك الجامعات ومراكز الأبحاث في بناء مؤشرات تقيس جودة المحتوى الإعلامي وتأثيره، بحيث يصبح لدينا تقييم علمي للمحتوى، لا مجرد حكم ذوقي أو تفاعل عابر. هذا سيعزز من مهنية القطاع الإعلامي، ويجعل المحتوى السعودي أكثر قدرة على المنافسة إقليميًا وعالميًا.

إن الإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيلة للنشر، بل أداة للتنمية وصناعة الوعي. فالمحتوى قادر على أن يبني قيمًا إيجابية، أو أن يزرع سلوكيات سلبية. قادر على أن يحفّز العمل والإنتاج، أو أن يكرّس ثقافة الاستعراض والسطحية. وهنا تتجلى المسؤولية المجتمعية الحقيقية: أن نضع الكلمة والصورة والصوت في مكانها الصحيح، بحيث تخدم الفرد والمجتمع والدولة.

وإذا كانت رؤية المملكة 2030 قد وضعت الإنسان في قلب التنمية، فإن الإعلام هو الشريك الذي يترجم هذه الرؤية إلى وعي عام وسلوك مجتمعي. الإعلام المسؤول هو الذي يحمي الخصوصية بوعي، ويواجه التنمر بخطاب عقلاني، ويعطي للأطفال صورة كريمة بعيدة عن الاستغلال، ويعزز التنوع بعيدًا عن الانقسامات.

إن الخامس والعشرين من سبتمبر، اليوم العالمي للمسؤولية المجتمعية، مناسبة مثالية لندرك أن الإعلام ليس مجرد ناقل للأحداث، بل شريك أصيل في صناعة مستقبل المجتمعات.

استشارية طب أسرة
مستشار الجودة وسلامة المرضى
مستشار التخطيط والتميز المؤسسي
كاتبة رأي