آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

زهرة المريخ

هناء العوامي

حرّكت راحيل رأسها يمنة ويسرى ثم مدت ظهرها إلى الخلف بعد أن شعرت بألم في عنقها وتصلب في ظهرها جراء جلوسها الطويل أمام المجهر، قبل أن تقرر النهوض والمشي قليلا في أنحاء المعمل الصغير الواقع شمال دولة مارسيا حيث تعمل، شعرت بتنميل في ساقيها فعادت للجلوس وقامت بتدليكهما قليلا... ثم شربت قليلا من الماء من زجاجة بجانبها قبل أن تلقي نظرة أخيرة من خلال عدسة المجهر.

راحيل هي عالمة متخصصة في علوم التربة وتحديدا في أبحاث تهدف إلى تحسين جودة تربة المريخ لجعلها صالحة للزراعة، هذا علم قديم وقد تطور كثيرا خلال القرون الماضية، حيث استحدثت سلالات من البكتيريا من أجل استصلاح التربة المريخية.

ثم غسلت وجهها لكي تخفف شعور الإرهاق الذي أحست به فجأة وقد أدركت أنها قد أمضت ساعات طويلة بداخل المعمل.

رأت في المرآة وجها جميلا بحق، وللحظة تساءلت من تكون هذه الحسناء التي تنظر إليها في انعكاس المرآة، عيون بنية واسعة بها لمعة بنفسجية حادة، وشعر أسود طويل، هي تقصه كثيرا لكنه يطول بعدها بسرعة، رغم أنه ليس كثيفا كحال معظم سكان المريخ، فكرت أنها ربما كانت لتعيش حياة سعيدة أكثر لو أنها عملت كمطربة، الجميع يقول أن لها خامة صوت جميلة، والمطربات في مارسيا يعرفهن الجميع ويكسبن المزيد من المال، لكنها تحب البكتيريا بحق... تحبها كثيرا.. تشعر أنها كائنات مظلومة مازال أغلب البشر يذكرها مقترنة بالمرض والألم والمعاناة... بينما أغلبها حليف لنا.. ويساعدنا بصمت.

”تماما كالعلماء المغمورين مثلي“ قالت العبارة بصوت مرتفع وهي تبتسم لصورتها في المرآة.

”هل توصلت جميلتنا إلى كشف علمي سيغير مجرى التاريخ؟“، قاطع صوت كارل أفكارها فالتفتت عابسة نحو الباب.

”ليس بعد“ ردت ببرود..

يفترض أن يكون قد أدرك الآن بأنها لا تستلطفه، ربما تخرج إلى السطح، وقد ترافق البعثات الاستكشافية شمالا، ربما حتى تهاجر إلى كوكب الأرض إلى أن تموت هناك.. فقط لكي تتجنب رؤيته.

كارل له وجه شاحب أكثر من اللازم، حتى بالنسبة إلى مارسيّ، وأنف حاد ترى هي بأنه لا يليق بالرجال، مع شعر خفيف للغاية، ملامحه غير مريحة، بالذات حين يبتسم، فضلا عن ذلك كله هو من ذلك النوع من العلماء الذي يقدم ولاءه لمن يدفع أكثر، تؤمن راحيل أنه لولا أمثال أولئك لربما ما اضطر البشر إلى الهجرة إلى المريخ حيث يكونون أبعد عن الشمس، لربما ما كان الجفاف الكبير قد حدث أصلا، إنهم يخدمون جهات كانت تريد مكاسب مادية على حساب الكائنات الحية الأخرى التي تعيش على الأرض، وربما على حساب الجنس البشري نفسه، والاستحواذ على الموارد... في الكوكب الأم أولا ثم في الكواكب الأخرى التي استوطنها البشر، لقد سببوا خللا في النظام البيئي، وربما الجيولوجي كذلك، وهي تعتقد أن معظم تجاربهم كانت فاشلة على كل حال، حاولوا تعويضها بتجارب أكثر فشلا وتسببوا في دمار الأرض، قبل أن يشيعوا أن كائنات ذكية من الفضاء كانت مصدر ذلك الدمار.

”سأذهب إلى استراحة الغداء“ قالت وهي تحاول أن تبتسم بسماجة.

خرجت إلى الممر حيث انعكس النور حين مرت بجانب المصباح على عينيها بلون أرجواني غني، كالتماع الجمشت..

بعض البشر أظنني فعلا أفضل صحبة البكتيريا، على صحبتهم... فكرت راحيل، رغم ألم كتفيها كانت أكثر سعادة وهي تنظر في عدسة مجهرها مما كانت أثناء تملق كارل لها.

- ”لا أفهم لماذا يستميت بعض الناس للحصول على المزيد من المال، بالرغم من أنهم يملكون - بالفعل - ما يكفي لكي يعيشوا بسعادة، هم وذريتهم من بعدهم“.

- ”المزيد من المال يعني المزيد من السلطة، التحكم بالبشر والأحداث والتاريخ“.

قالت سوزان ردا على ذلك..

كانت قد اجتمعت بصديقتها لغداء متأخر في حدائق مارسيا الواقعة بالقرب من مركز الأبحاث حيث تعمل.

- ”كواك كواك“ قال طائر ملون هجين على غصن شجرة قريبة كأنما يؤيد كلامها.

- ”أفكارك أحيانا تخيفني يا سوزان! وكأنك تؤيدين ذلك، هل تريدين أن تصبحي مثلهم؟“.

هزت سوزان كتفيها قائلة: ”أنا لا أهتم، لن أكلف نفسي عناء المحاولة“.

ضحكت راحيل، وطار الطائر آنف الذكر بصخب مخلفا حفنة من أوراق الشجر التي سقطت فوقهما، لكنها لحسن الحظ لم تقع بداخل الأطباق.

لكن الفتاتين لوحتا بأيديهما فوق المائدة على كل حال، ما جعل كفيهما تتصادمان، والتقت عيونهما...

كانت عينا سوزان تقولان: ”أنت تنتمين لذلك العالم“.

ولم تحب راحيل ما تلمح إليه صديقتها، فأبدت ضيقها بدلا من ذلك من اختيارهما طاولة مجاورة لتلك الشجرة.

كان والد راحيل يعمل بمنصب كبير في شركة عابرة للكواكب.

توجد ثلاث شركات عابرة للكواكب، واحدة منهن فقط لها فروع في الكواكب الثلاثة، واثنتين لهما فروع في الأرض والمريخ وتزعمان بأنهما سوف تصلان قريبا إلى تيتان. والشركة التي يعمل بها والدها يعمل بها عدد من الموظفين أكثر من عدد سكان مارسيا مجتمعين... وهي تصنع وتبيع كل شيء، من يعملون بها تغنيهم بطاقتهم التعريفية بجهة عملهم عن جواز السفر، حتى بين الكواكب... بالذات بين الكواكب!

لقد سألت أباها ذات مرة إن كان صحيحا أن شركته تثير النعرات بين دول شمال آسيا حتى يحارب بعضهم بعضا ثم تبيع الأسلحة للطرفين، لكن أباها وجه لها نظرة حادة كالسكين وسأل: ”وماذا يهمك أنتِ من ذلك؟“

ثم سمعت صوته يخاطب ظهرها وهي تغادر الغرفة ”إنكِ حتى لا تعيشين معهم على نفس الكوكب“، شعرت بعد ذلك بالضيق حتى كرهت البقاء في المنزل ورغبت في الذهاب إلى المختبر والانغماس في البحث الذي كانت تقوم به، لكنها ستجد كارل ليضايقها هناك.

كان والداها منفصلين، وكانت أمها ترغب في الابتعاد عنه قدر الإمكان، لولا الخوف من المجهول لغادرت لتعيش في كوكب آخر... لم لا؟ بدأت راحيل تفكر.. الأرض ليست بعيدة إلى هذا الحد، والبعض يذهب إلى هناك لمجرد السياحة، هذا إن كنت تملك ما يكفي من الوقت والمال للسفر لعدة أشهر... ثم إن الأرض هي الأصل، المفترض أن يشعر المرء بالراحة للعودة إلى حيث عاش أسلافه.... سنرى.

هي شخصيا لن تجد مشكلة في الحياة بعيدا عن والدها..

”الوضع زفت“ تمتمت راحيل وهي تفكر.

كانت في طريقها إلى العمل في اليوم التالي.

حين رأت فجأة مشهداً سيطاردها في الكوابيس ما بقي من حياتها.

لم تستوعب للحظة ما تراه، وبدا أن رجليّ الصبي جزء من فروع الشجرة أو بتلات الزهرة.

كانت زهرة عملاقة تبتلع صبيا في الثالثة أو الرابعة، وقد طارت رجلاه في الهواء تركلان اللاشيء.. وسمعَت صوت غرغرة مكتوما خافتاً..

رأت سرواله القصير يختفي بداخل النبتة، اتسعت عيناها رعبا ثم اختفى فجأة وعم السكون الكون.

كادت أن تكمل طريقها موقنة أنها تخيلت ما رأته، والذي لم يستغرق سوى ثوان معدودة.

لكنها - بلا تفكير ولا إرادة - اتجهت نحو باب سور حديقة مفتوح، وجدت فأسا ملقاة على الأرض بإهمال وشبه مختفية تحت مجموعة من فروع الأغصان المقطوعة، مع ذلك لاحظت وجودها فورا، فالتقطتها وركضت باتجاه النبتة إياها موجهة ضربة بأقصى قوتها نحو جذعها، انتفضت النبتة كإنسان يشعر بالبرد أو الألم قبل أن توجه راحيل ضربتها التالية وهي تصرخ: ”زفت“ فقطعتها..

”ماذا تفعلين في حديقتي؟“ جاءها صوت رجل غاضب من الخلف لكنها لم تلتفت، أخذت تمزق النبتة الكبيرة، وهي تتعرف إلى نوعها بالتدريج، هذا نوع مهجن من النباتات، استحدث ليتغذى على الحشرات، أنواع غريبة من الحشرات لم توجد قط سوى في حدائق المريخ، من ناحية هو يخلصك من الحشرات التي تأكل المحاصيل، ومن ناحية أخرى يعوض نقص خصوبة التربة بذلك المصدر البديل للغذاء، وينتج ثمارا قابلة للأكل لا بأس بها على الإطلاق.

لكن الأجيال الجديدة منه أصبحت تزداد وتزداد في الحجم، خاصة زهوره، وقد راق ذلك للمزارعين، وحتى غير المزارعين ممن بدؤوا يزرعونه في حدائقهم الخاصة، هذه النبتة قد بلغت للتو.. هذا يفسر شراهتها الواضحة، الآن ظهر حذاء الصبي بينما عصارة لزجة صفراء تغطي يديها وتجعلها تحمرّ.. لها رائحة غريبة حادة.

كان الرجل خلفها يقول بينما تخيلت وجهه يحمر حِنقاً: ”هذه ممتلكات خاصة“. قال وهو يتقدم نحوها، لكنه فجأة رأى القدم والحذاء اللذين خرجا من أشلاء النبتة الممزقة فأكمل طريقه نحوها جرياً ليساعدها في إخراج ابنه من جوف الزهرة المفترسة.

كان الطفل مغطى بالعصارة اللزجة والتي ظلت راحيل تمسحها بملابسها ويديها، كان جِلدهُ مُحمرّاً..... لكنها حين مسحت أنفه وفمه صرخ باكياً.