آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

التوازن المفقود

ياسين آل خليل

السلوك الأخلاقي غدا ضرورة وجودية. فالأخلاق في جوهرها هي القدرة على تجاوز الأنا الضيقة، والنظر أبعد من المصالح الشخصية والالتفات إلى حقوق وكرامة الآخرين. إنها ميزان العدالة الذي يوازن بين الذات والغير، بين ما نأخذه وما نعطيه. لكن السؤال المُلح اليوم.. ما معنى هذا كله ونحن نعيش في زمن تسوده الماديات وتتسارع فيه المصالح المتشابكة..؟

في عالمٍ يزن الناس بجيوبهم، ضاع وزن ما تحمله أرواحهم. لقد ذابت القيم في زحام المكاسب اللحظية، وأصبح الإنسان أقرب إلى الاستهلاك الآلي منه إلى الإنسانية الحقيقية. لم تعد القيم الأخلاقية مطلوبة في ”سوق“ الحياة كما كانت، بل استبدلت بمعايير برّاقة لا عمق لها. صرنا نرى أنفسنا أحيانًا مثل الدمى تحركها مصالح الآخرين، حتى في لحظات التعبّد التي كان يُفترض أن تكون ملاذًا للسكينة.

اليوم لا يخترقنا سلاح ظاهر بقدر ما تخترقنا الأجهزة الصغيرة التي نحتفظ بها بين أيدينا. الهواتف الذكية والشاشات أصبحت جزءًا من وعينا، تحاصرنا بالإعلانات والأخبار والمحفزات التي تعيد تشكيل عقولنا بغير وعي. حتى الصلاة، التي هي لحظة صفاء مع الله، لم تسلم من هذا التشويش. لذلك ترانا نقف بين يديه سبحانه جسدًا، بينما عقولنا مشغولة بما تخفيه عنا شاشات العرض الافتراضية.

ما نراه من صراعات، وظلم اجتماعي، ليس إلا انعكاسًا للتوحش الداخلي الذي قتلنا به إنسانيتنا. أصبحنا نتباهى بالحديث عن القيم التي لا نمارسها، ونتشدق بالإنسانية التي نفتقدها. يا ترى هل بات علينا أن ننزوي ونصمت، عسى أن يكون في صمتنا هذا مدعاة لإيقاظ ضمير بات يترنح في سبات سرمدي لا يكاد له أن ينتهي.

أمام هذا الواقع المذل، باتت الحاجة ملحّة إلى ترويض أنفسنا قبل أن تجرّنا إلى هاوية لا عودة منها. صحيح أننا مثقلون بالجشع والأنانية، لكن الطريق لم يُغلق بعد. ما زال أمامنا متسع من الوقت لنستعيد إنسانيتنا، إذا عدنا إلى قيم الفطرة التي فطرنا الله عليها، وإذا تعلمنا أن ننصف غيرنا قبل أن نطلب منهم الإنصاف..!

التحدي الأكبر ليس أن نندب حالنا، بل أن نصوغ واقعًا بديلًا. علينا أن نُعيد التفكير في علاقتنا بذواتنا، وبالآخرين، وبالأرض التي نحيا عليها. أن نزرع في أنفسنا والجيل القادم وعيًا مختلفًا يجعل من التقنية وسيلة لبناء الإنسان لا وسيلة لابتلاعه. أن نحيي القيم لا بوصفها شعارات، بل باعتبارها بوصلة تهدينا إلى شاطئ الأمان في بحر متلاطم من المغريات والمتغيرات.

لسنا في حال ميؤوس منه، وإن كنا على حافة الخطر. إن الحكمة ما زالت ممكنة، والعقل لم يفقد قدرته على التمييز بعد، والقيّم قادرة على أن تعود إذا استدعيناها بصدق. المسألة ليست في وجود الوقت من عدمه، بل.. هل نملك الإرادة لأن نستعيد إنسانيتنا قبل أن يسلبها منا الطوفان المادي الزاحف..؟