نقد الموروث بين الانفلات والضوابط
في عصرنا التقني الحاضر أضحى في يد كل فرد، يمتلك جهاز الجوال، منصة إعلامية خاصة به؛ وأضحى أغلب الناس سواء صغير أو كبير، عالم أو أحمق، ذكر أو أنثى، عالي الأدب أو منعدم الأدب، باستطاعته أن يبث ما يريد من محتوى ومقاطع فيديو ويعبر عن آراءُه ويسوق أفكاره أو جسده أو أدبه أو علمه أو مشروعه أو تجارته أو مشاكله أو عقائده… إلخ، دون أخذ إذن من أي جهة. وهذا الأمر نعمة إن أحسن صاحب الجهاز توظيفه، ونقمة إن أساء توظيفه؛ أي إن الإطلالة للأفراد/ مجموع/ فرق عبر منصات التواصل الاجتماعي قد تكون نعمة أو نقمة في ذات الوقت. لأن بعض صناع المحتوى يفيدون الآخرين، والبعض الآخر يفسدون الآخرين وأي إفساد!! وهنا لابد أن يكون على كل إنسان رقيب وحسيب نابع من ضميره وذاته عبر فلتر الأدب والأخلاق والتربية والأعراف الاجتماعية واحترام القانون وصيانة قيم المجتمع واحترام تعاليم الله جل جلاله. بعض الأمور قد يكون الحسيب والرقيب فيها هو الأب/ الأم/ الزوج/ الزوجة/ الأخ الأكبر/ الصديق الرفيق. وبعض المواد المنشورة قد تخضع لرقابة مدير التحرير الإعلامي لشركة ما أو قناة فضائية ما أو صحيفة ما أو جهاز رسمي لجهة ما أو المجتمع أو المؤسسة المهنية… إلخ. والبعض من المواد المنشورة سواء الإباحية أو الهابطة أخلاقيًا أو الداعية للإلحاد أو المسوقة للفجور أو المروجة للتشكيك بوجود الإله والطاعنة في أهل الصلاح والفلاح أو الأعمال الباطلة التي تُنسب زورًا للدين قد لا تنالها يد الرقيب الإعلامي/ الروحي/ القانوني في بعض الأقاليم غفلة أو خشية أو بسبب حسابات دنيوية ما، إلا أن محاسبة الله في يوم القيامة ستكون بالمرصاد وإن كثر عدد المشاهدين والمتابعين والمريدين والمغرر بهم أو المضللين.
في عالم اليوم، يعتقد البعض لا سيما الشباب المتأثر بأفكار معينة أن النقد والتفكير النقدي عنصر عصري ويعطي دماء وأفكار جديدة في الفكر الديني التقليدي والشعبي، ويبعث صورة جمالية للدين والأعراف الاجتماعية لأنه يكسر الصور الجامدة لقوالب الطقوس. وفي المقابل، يعتقد البعض من المتدينين الأوفياء أن التفكير النقدي المفرط لدى بعض الشباب هو محل شك وريبة وغطاء لتمرير أجندات أيديولوجيات ومصالح جهات شرقية وغربية تسعى لهدم قوالب الدين حتى الأساسية منها. بين هذا وذاك من الخطوط والاتجاهات، يرى عدد كبير من الناس أن هكذا نزاع يُهدر طاقات لا يستهان بها من كلا الفريقين. وأتذكر قول شاعر:
تعيب زماننا والعيب فينا
ولو نطق الزمان بنا هجانا
ويأبى الذئب لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضًا عيانًا
ويعتقد البعض من المتأثرين أنهم قاموا ببعض التطويع للنصوص الدينية حسب مقاييس لفظية بها مغالطات منطقية وسباقات كلامية منمقة، فإنهم حدثوا الدين جملة وتفصيلًا واستصدروا نسخة جديدة منه ترضي الشقران والحمران والصفران والبيضان. وهذا يذكرني بكتاب لمؤلف اسمه مصطفى أكول عاش في مجتمع يغلب عليه من لا يؤمن بدين الإسلام، فأصدر كتاب بعنوان: Reopening Muslim Minds ليظهر نسخة تتواءم وما يراه مقبولًا عندهم كنسخة جديدة من الدين الإسلامي الحنيف. فبدلًا من انتقاد المؤلف لسلوك بعض المنحرفين وبعض منتحلي صفة الإسلام وبعض الجماعات الإرهابية والمتطرفة، انتقد المؤلف بعض أجزاء الإسلام وطوع النصوص القرآنية تفسيرًا ضمن معايير فكرية تتواءم ومجتمعه الجديد!!!
فهم البعض التجديد للدين عبر نيلهم من نصوص الشرع وسلب التشريع عن الدين وإقصائه وإبعاده عن حياة المجتمع من خلال التكبيل والتحجير عليه والتهميش له تارة، وتارة عبر خلق شخصيات منفُوخة إعلاميًا وإلصاق صفات حميدة بها ووضعها كنموذج للشخصية الإسلامية المثالية التي يجب أن يُقتدى بها، وإن جاهرت تلكم الشخصيات بالفسق والمجون والسفاهة والتبذير وسوء إدارة الأمور والمجاهرة بالشهوات.
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ [البقرة: 134]
كل مجتمع يؤطر تقاليد وأعراف تتواءم وظروفه ومعطيات زمانه وموقعه الجغرافي. البعض - مع شديد الأسف - يحمل العادات والتقاليد محمل النصوص الدينية وتكون أعراف الآباء والأجداد بالنسبة لهم قواعد اجتماعية أصلية لا يمكن المساس بها أو الاقتراب منها في نظرهم. طبعًا هذا عبث بعقول الأجيال في أن يكونوا تابعين لآخرين بشكل أعمى ودون وعي وبصيرة وفهم، أو أن لا يقولوا كلمتهم ويفعلوا فكرهم ويتمحصوا واقعهم ويتكيفوا مع معطيات زمانهم سواء الاقتصادية أو السياسية أو البيئية أو الاجتماعية. ولكن إيجاد خلط متعمد من قبل البعض بين الموروث الشعبي والأعراف الاجتماعية من جهة مع النصوص والتعاليم الشرعية أمر مريب. فإن ذلك مغالطة عليها ألف علامة استفهام ويتبعها ألف سؤال عن النية المبيتة لصاحب هكذا خلط متعمد.
من الجيد إعداد مراكز بحث ومنصات حوار هادفة تعطي أهمية قصوى للدراسات البحثية المعمقة والرصينة لسد الفجوات وتجسير الحوار وفرز الغث من السمين وكشف المغالطات. فوجود مراكز بحثية مرموقة وموضوعية غير منحازة متعددة تغطي مجالات عدة - وليس مركزًا واحدًا - يوظفون الطاقات لما هو أفضل وأجدى وأنفع، سيكون له الأثر الكبير. فوجود:
1- متخصص في مجال قراءة السلوك البشري المحمود للحث عليه وتشخيص ودراسة السلوك المزعج/ المنحرف للتحذير منه وإبطال توغله أو وقف انتشاره.
2- متخصص في تعزيز الروح المعنوية.
3- متخصص في رصد مواقع الانحلال والكفر والفجور الإلكترونية الرقمية والواقعية لإبطال أعمالهم والتحذير منهم.
4- متخصص في مجال البحوث التاريخية ذات البعد المفصلي.
5- متخصص بحوث عالمية.
6- متخصص رصد توجهات وأنماط فكرية.
7- متخصص حكمة وإرشاد.
8- متخصص توجيه وتربية سلوكية.
9- متخصص استثمار موارد بشرية.
10- متخصص حلحلة سوء تفاهم.
وجود هكذا تنوع في الاختصاص وتوظيف الطاقات بشكل أنسب سيأتي ثماره ولو بعد حين.
يتسلح البعض بسلاح الوجاهة الاجتماعية أو الحماية القانونية أو القداسة الدينية أو اللقب الأكاديمي أو… أو… ليتجاوز المساءلة ويتخطى النقد البناء لسلوكه وأقواله وتصريحاته. والواقع أن كل شخص سيقف يوم القيامة أمام الله جل وعلا ويحاسب عما صدر منه من قول وفعل وإيماء:
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24].
فيحق للناس توجيه أسئلة بهدف البحث عن الحق والحقيقة، ولا يجوز لرجل دين/ أكاديمي/ ذو منصب أن يسقط ذلك الحق بقول: ”الراد على العالم كالراد على الإمام والراد على الإمام كالراد على الله“، أو تحت تفسير آية قرآنية لا تتواءم مع خصائص الشخص الذي وظفها: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال: 1]، أو بقول: ”من أنتم…!!“ احتقارًا وتهكمًا.
البعض أسقط نفسه بنفسه كفرد أو كمجتمع أو كأتباع دين من خلال أسلوبه غير اللائق في النقد والحديث، وانعدام احترامه للآخرين وتهجمه عليهم وتطاوله على أهل الآخرين، والسخرية منهم وإبراز الذات المتضخمة لديه في كل لقاء ومحفل وتجمع وحديث. فإن ذلك كشف ويكشف عن كم هائل من العُجب والغرور والأنانية والتنمر والغطرسة. وهذه السمات هي نفسها ما أخرج إبليس من الجنة وجعله من الملعونين:
﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [ص: 74-78].
من السهل جدًا معرفة ما يريده المتربصون بالقرآن الكريم. ولعل المتحدث باليوتيوب المرفق كشف بعض الأمور التي يريدها المتربصون عبر تسقيط قيم القرآن الكريم وتفتيتها، سواء بمحاربة بناء الأسرة أو الارتباط العائلي أو إباحة المحرمات أو ترويج الإباحية أو التفنن في الإغواء. ملفت للمتابع كمية الطعن تارة، والتسقيط تارة، والتهكم تارة أخرى بكل ما يتعلق بالقرآن الكريم من خلال استخدام عدة أقنعة.