آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

الشيخ حمد الجاسر.. مؤرخ الجزيرة العربية وراعي تراثها الثقافي

عاطف بن علي الأسود *

مدخل: ذاكرة وطن في شخص

في سجلّ التاريخ السعودي الحديث، تلمع أسماء كبار أسهموا في صناعة الوعي الثقافي والحفاظ على التراث، ومن أبرزهم الشيخ حمد بن محمد الجاسر - رحمه الله - الذي لم يكن مجرد مؤرخ، بل رمزًا وطنيًا وهب حياته لحفظ الذاكرة الجماعية، وتوثيق ملامح الجزيرة العربية؛ جغرافيًا، اجتماعيًا، وثقافيًا.

لقد عاش الجاسر في زمنٍ دقيق، يشهد تحولات سياسية واجتماعية كبيرة، ومع ذلك، أصرّ أن يكون الصوت الذي يحفظ الماضي ويؤسس لوعي مستنير بالمستقبل.

النشأة والبدايات العلمية

وُلد الشيخ حمد الجاسر عام 1328 هـ «1910 م» في بلدة البرود بمنطقة نجد، في بيئة محافظة مشبعة بحب الدين والعلم. حفظ القرآن الكريم صغيرًا، ثم انتقل إلى مكة المكرمة، حيث التحق بالمعهد العلمي ودرس العلوم الشرعية واللغة العربية، وهي الخطوة التي مهّدت له الطريق نحو مسيرة علمية وثقافية فريدة.

بعد تخرجه، عمل في ميدان التعليم وتقلّد عدة مناصب حكومية، إلا أن اهتمامه الحقيقي ظل منصبًا على البحث والكتابة والتوثيق، ما جعله يتحول لاحقًا إلى شخصية مرجعية في مجال الدراسات التاريخية والجغرافية والاجتماعية.

الصحافة الثقافية: منصة لبناء الوعي

يُعد الشيخ حمد الجاسر من رواد الصحافة الثقافية في المملكة، فقد أسس صحيفة اليمامة، كواحدة من أوائل الصحف السعودية، ثم أطلق مجلة العرب عام 1966 م، التي أصبحت منبرًا رصينًا للبحوث والدراسات في تاريخ الجزيرة العربية وقبائلها وجغرافيتها ومجتمعها.

وقد ساهمت هذه المنصات في إثراء الحياة الفكرية، وربط القراء بتراثهم الوطني، كما قدّمت فرصًا للباحثين والمهتمين بالشأن التراثي لنشر إنتاجهم العلمي في بيئة معرفية احترافية.

مركز حمد الجاسر الثقافي: ذاكرة محفوظة

من أبرز المشاريع التي تحمل إرثه الحي، مركز حمد الجاسر الثقافي، الواقع في محافظة الزلفي، والذي يضم مكتبة ضخمة تحتوي على آلاف الكتب والمراجع والمخطوطات، إضافة إلى أرشيف صحفي وتاريخي نادر.

لا يقتصر دور المركز على التوثيق، بل يشمل أيضًا تقديم الخدمات البحثية، وتنظيم الندوات والمحاضرات والمؤتمرات العلمية التي تستقطب الباحثين من داخل المملكة وخارجها. ويُعد اليوم مرجعًا أساسيًا لأي مهتم بتاريخ الجزيرة العربية وقبائلها وثقافتها.

منهجه في البحث والتوثيق

تميّز الشيخ الجاسر بمنهج علمي دقيق، يجمع بين التحقيق الوثائقي والرواية الشفوية، مع قدرة لافتة على الربط والتحليل. لم يكن يكتفي بالنقل، بل يتقصى ويوثّق ويُقارن ويُدقق، ملتزمًا بالموضوعية والدقة.

من أبرز مؤلفاته:

• معجم قبائل المملكة العربية السعودية: مرجع لا غنى عنه في دراسة التكوين القبلي للمجتمع السعودي.

• بلاد ينبع: دراسة شاملة لجغرافيا وتاريخ هذه المدينة الساحلية.

• رحلات في جزيرة العرب: مجموعة من مشاهداته ورحلاته الميدانية التي قدّم فيها صورة حيّة للمجتمع، والعادات، والتغيرات التي شهدتها الجزيرة العربية.

إسهاماته تتجاوز التوثيق

لم يقتصر دور الشيخ الجاسر على جمع المعلومات، بل ساهم في بناء الوعي الوطني من خلال ربط المواطن بجذوره، وتعزيز الانتماء الثقافي والتاريخي. لقد وقف في وجه محاولات طمس التراث أو تجاهله، وكان صوتًا قويًا يدعو إلى احترام التاريخ المحلي، وإبرازه كجزء من الهوية الوطنية الشاملة.

كما شجع على تدريب أجيال من الباحثين، ودعمهم علميًا وأكاديميًا، وكان له دور كبير في نقل المعرفة التراثية إلى الباحثين المعاصرين، وتكوين جيل واعٍ بأهمية الثقافة في نهضة الأمم.

هذا ما استطعت الوصول إليه… لكنه يستحق أكثر

خلال هذا البحث، سعيت جاهدًا لتجميع أبرز معالم مسيرة الشيخ حمد الجاسر، مستندًا إلى كتبه، وأرشيف مجلاته، والمصادر المتاحة، إلا أن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها:

هذا الرجل، رحمه الله، يستحق أكثر بكثير مما كُتب هنا.

لا تزال هناك جوانب من سيرته لم تُوثق كما ينبغي:

• تفاصيل علاقاته العلمية ومراسلاته الدولية.

• يومياته الخاصة وأفكاره حول قضايا عصره.

• أثره التربوي فيمن تتلمذوا على يديه.

• مساهماته في تأسيس الخطاب الثقافي السعودي المعاصر.

وقد يكون من واجبنا - كباحثين ومهتمين - أن نستكمل هذه السيرة، من خلال مشاريع أكاديمية وبحثية توثق كامل حياته وإرثه، وتعيد تقديمه للأجيال الجديدة بالصورة التي تليق بمكانته.

التكريم والجوائز

نال الشيخ حمد الجاسر خلال حياته وبعد وفاته عددًا من أرفع الجوائز والأوسمة التي تليق بمكانته العلمية والثقافية، ومنها:

• جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 1404 هـ، تقديرًا لإسهاماته الأدبية والثقافية.

• وسام التكريم من مجلس التعاون الخليجي عام 1410 هـ.

• وسام الملك عبد العزيز، بعد اختياره الشخصية المكرّمة في مهرجان الجنادرية عام 1415 هـ.

• الدكتوراه الفخرية من جامعة الملك سعود عام 1416 هـ، نظير عطائه العلمي الغزير.

• جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 1416 هـ «1996 م».

• جائزة سلطان العويس في الإمارات في مجال الإنجاز الثقافي والعلمي عام 1416 هـ.

• جائزة الكويت للتقدم العلمي عن كتابه ”أصول الخيل العربية الحديثة“ في العام ذاته.

معالم خالدة تحمل اسمه

تكريمًا له، حملت العديد من المعالم التعليمية والثقافية والطبية اسمه، داخل المملكة وخارجها،

وفاته، توفي الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - في 16 رجب 1421 هـ الموافق 14 أكتوبر 2000 م، بعد حياة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي. ورغم رحيله، فإن إرثه لا يزال نابضًا بالحياة في مؤلفاته، وفي المؤسسات التي أنشأها، وفي الذاكرة الثقافية للأمة.

خاتمة: إرث يستحق أن يُخلّد

الشيخ حمد الجاسر ليس مجرد اسم في سجل المؤرخين، بل هو صوت وطن، وضمير ثقافي لم يخذل زمنه. ترك خلفه إرثًا خالدًا يُعلّمنا أن التاريخ لا يُكتب فقط بالأرقام والأحداث، بل يُصاغ بالشغف، والإخلاص، والصدق.

إن ما تركه الجاسر، رحمه الله، من أعمال ومؤسسات، يجب أن يكون موضع اهتمام مؤسسات التعليم والثقافة، لأنه يُمثّل روحًا وطنية صادقة، ورسالة حضارية جديرة بأن تُروى دومًا.

دراسات عليا اقتصاد صحي