آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 5:43 م

صباح الحكمة

ياسر بوصالح

أعجبُ من معاشر ”الواتسبيين“ الذين يتّخذون من رسائل ”صباح الخير“ و”صباح الفل“ طقسًا يوميًا لتدفئة العلاقات، وهي ظاهرة تناولناها تفصيلًا في مقالنا السابق: بين حانا ومانا ضاعت لحانا. [1] 

لكن ما يثير الاستغراب حقًا: لماذا لا يجمع هؤلاء بين دفء التواصل وعمق الكلمة؟

فكم من تصبيحة تُرسل كل صباح، تخلو من أي معنى يتجاوز المجاملة العابرة،

في حين أن تراث أهل البيت زاخرٌ بكلمات قصيرة تختزن كنوزًا حكميّة هائلة، كفيلة بأن تُضفي على التحية اليومية بُعدًا رساليًا، وتحوّلها من تكرارٍ رتيب إلى رسمٍ لخارطة طريقٍ روحية وفكرية.

والخيار متروك للمرسل: إما أن يُضمّن تحيته اليومية حكمة موجزة، كما في النماذج التالية:

صباح الخير... أصلح سريرتك، تُصلح علانيتك. [2] 

صباح الفل... لا تكن عبدًا لغيرك، وقد خلقك الله حرًّا. [3] 

صباح النور... من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك. [4] 

صباح الرحمة... لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه. [5] 

صباح التأمل... من عرف نفسه، فقد عرف ربّه. [6] 

أو يختار حديثًا قصيرًا مشفوعًا بالتحية، كما يفعل أحد أصدقائي الأعزاء من مملكة البحرين الشقيقة، إذ أرسل لي مؤخرًا رواية تمرّ عليّ لأول مرةٍ، لكنها مذهلة في واقعيتها ودقتها، وأظنك — عزيزي القارئ — ستشاركني الصدمة والاعتراف بعمقها:

رُوي عن الإمام الصادق أنه قال:

«مِنْ أَخْلاقِ الْجاهِلِ: الْإجابَةُ قَبْلَ أَن يَسْمَعَ، وَالْمُعارَضَةُ قَبْلَ أَن يَفْهَمَ، وَالْحُكْمُ بِما لا يَعْلَمُ.» [7] 

رواية تختصر مأساة الحوار المعاصر، وتُضيء لنا طريقًا نحو فهمٍ أعمق، وتحفّظٍ أنبل، وتواصلٍ أكثر نضجًا.

ولعل جمال هذه الرواية أنها أشبه بمنجم الذهب: فمنجم الذهب قد تخرج منه ببعض الأحجار إن لم تكن تملك سوى يديك، لكنك إن استخدمت الأزميل وأدوات الحفر المتطورة، فستخرج بالمزيد الهائل منه.

وكذلك هذه الرواية: إن قرأتها بعين عابرة، فلن ترى إلا سطحها، أما إن قرأتها بعينٍ عارفة، فستغوص في أعماقها.

ولعل من أول ما يلفت النظر فيها هو اختيار الإمام لعبارة ”من أخلاق الجاهل“ بدلًا من ”من علامات الجاهل“، لأن الأخلاق صفات نفسية راسخة تصدر عنها الأفعال تلقائيًا، وتشير إلى أن الجهل متجذر في النفس، لا مجرد سلوك عابر.

أما العلامات فهي مظاهر خارجية قد تظهر وتختفي، مما يُوحي بأن الجهل قد يكون مؤقتًا أو سطحيًا، الإمام أراد أن يُبيّن أن هذه الصفات ليست مجرد مظاهر، بل سجايا متأصلة تُعبّر عن انحراف نفسي لا مجرد خطأ معرفي.

ثم لماذا قال ”من أخلاق الجاهل“ ولم يقل ”من أخلاق الأحمق“؟، لأن الجهل حالة معرفية، بينما الحُمق خلل في العقل والتقدير، فالجاهل قد يكون ذكيًا لكنه يجهل الحقائق أو يتسرّع، أما الأحمق فتصرفاته غير متزنة نتيجة ضعف في الفهم.

والجهل قابل للتعليم، أما الحُمق فغالبًا لا يُرجى له إصلاح.

الإمام يُخاطب جمهورًا يمكن تهذيبه، لذلك لا يُقصيهم بوصفٍ قد يُشعرهم باليأس من التغيير.

ثم إن الجهل أوسع دلالة من الحُمق، إذ يشمل من يجهل الدين، أو آداب الحوار، أو نفسه، بينما الحُمق يُحصر غالبًا في الطيش، وبلاغيًا، فإن ”الجاهل“ أكثر اتساقًا مع السياق، لأنه يُضفي طابعًا تربويًا، بينما ”الأحمق“ يُضفي طابعًا هجائيًا، والإمام كان يُعالج الجذور، لا يسخر من الأعراض.

أما عن جمال التدرج والتصعيد في الرواية فحدّث ولا حرج، فهي ليست ترتيبًا عشوائيًا، بل تصعيدٌ مدروس في كشف طبقات الجهل، يُشبه سلّمًا ينزل فيه الإنسان من سوء الفهم إلى سوء الحكم، حتى يبلغ قاع الانحراف المعرفي.

الإجابة قبل أن يسمع: أدنى درجات الجهل، أن يُبادر الإنسان بالرد قبل أن يُنصت.

كأن الإمام يقول: الجاهل لا يُعطي للقول فرصة أن يُكتمل، بل يُقاطع الفكرة قبل أن تكتمل.

المعارضة قبل أن يفهم: الجهل يتحوّل من سلبية الإنصات إلى عدوانية الجدل.

وكأن العقل صار سلاحًا بلا ذخيرة، يُطلق سهامه على كل شيء.

الحكم بما لا يعلم: وهنا ذروة الجهل، أن يُصدر الإنسان حكمًا بلا علم، ولا فهم، ولا سماع، الجاهل هنا لا يكتفي بالخطأ، بل يُعمّمه، ويتقمّص سلطة معرفية بلا أساس.

وأختم بهذا الحديث العظيم عن النبي الأعظم ﷺ:

«إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له سخطه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يدري أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه» [8] .

النبي الأعظم ﷺ كان يُحذّر من مسؤولية الكلمة، والتي في أيامه لا تتجاوز حدودها العشرات أو المئات، فما بالنا اليوم بـ ”الواتساب“، حيث كل مرسل يحتوي واتسابه على عشرات المجموعات، وكل فرد فيها يحتوي على مثلها،

ولك أن تتخيّل — عزيزي القارئ — مغبّة كل حرف، شرعيًا، فضلاً عن قانونيًا وأخلاقيًا.

[1]  https://jehat.net/124171

[2]  مقتبسة من كلمات الامام علي - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 20 - الصفحة 68

[3]  مقتبسة من كلمات الامام علي - نهج البلاغة - خطب الإمام علي - ج 3 - الصفحة 51

[4]  مقتبسة من كلمات الامام علي - كنز الفوائد - أبو الفتح الكراجكي - الصفحة 128

[5]  مقتبسة من كلمات الامام علي - نهج البلاغة - خطب الإمام علي - ج 2 - الصفحة 181

[6]  مقتبسة من كلمات الامام علي - غرر الحكم: 7946

[7]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 - الصفحة 62

[8]  المستدرك - الحاكم النيسابوري - ج 1 - الصفحة 45