لغة الحياة ولغة البشر: رحلة في أبجديات التعقيد والإبداع
تُعتبر اللغة مرآة تعكس ثراء الفكر البشري وعمق حضارته. هي النظام والوعاء الذي يتيح له التعبير عن أعقد الأفكار وأدق المشاعر، وهي السمة المميزة التي ميزت الإنسان عن غيره. ولكن إذا كنا ننظر إلى لغتنا بتقدير، فهل تساءلنا يومًا عن لغة الحياة ذاتها؟ تلك اللغة الصامتة، التي تُكتب بلا أحرف هجائية، وتُصاغ بها كافة الكائنات الحية، من أبسط خلية إلى أعقد الكائنات؟ إن المقارنة بين لغة البشر ولغة الحياة، بما فيهما من أبجديات ومفردات، تكشف لنا عن مستويات مذهلة من الثراء والتعقيد، وتدعونا إلى تأمل عظمة الإبداع الكوني.
في لغاتنا المعروفة، يكمن أساس البناء اللغوي في الأبجدية، وهي مجموعة محدودة من الحروف تتراوح عادة بين العشرين والثلاثين حرفًا. هذه الحروف القليلة تتجمع بطرق لا حصر لها لتُشكّل المفردات اللغوية، التي تحمل كل واحدة منها دلالة محددة. ويُعد ثراء اللغة وغناها مقياسًا لكمية هذه المفردات وقدرتها على الاشتقاق وتوليد المعاني.
وفي هذا السياق، تبرز اللغة العربية كنموذج استثنائي لهذا الثراء. فبينما يُقدَّر عدد مفردات اللغة الإنجليزية بحوالي 600 ألفًا، والفرنسية بحوالي 130 ألفًا، نجد أن الأبحاث اللغوية تشير إلى أن عدد مفردات اللغة العربية قد يتجاوز 12 مليون مفردة «شاملة المستخدمة وغير المستخدمة حاليًا». هذه المقارنة لا تُعبر عن تفوق فحسب، بل تُجسّد القدرة الهائلة للنظام الاشتقاقي في العربية على استيعاب المعاني وتوليدها. وقد قيل في الأثر: ”إن من البيان لسحرًا“، ولعل من وجوه هذا السحر هو في سعة القاموس وقوة التعبير.
بالانتقال إلى عالم الأحياء، نجد أن مفهوم اللغة يأخذ بعدًا مختلفًا تمامًا. فمفردات هذه اللغة ليست كلمات منطوقة، بل هي البروتينات، التي تُعد بحق مادة الحياة. تشكل البروتينات الهياكل الأساسية للخلايا الحية، وتؤدي وظائف حيوية لا حصر لها، مثل التحفيز «الإنزيمات»، والنقل، والدعم الهيكلي، والدفاع المناعي.
أما أبجدية هذه اللغة، فهي مجموعة من الجزيئات العضوية تُعرف باسم الأحماض الأمينية. ومن المصادفات العلمية المدهشة أن عدد هذه الأحماض الأمينية التي تُصنع منها بروتينات الكائنات الحية المعروفة هو 20 حمضًا أمينيًا فقط. هنا، تتجلى عملية البناء والتكوين بآلية مشابهة للغة البشر؛ فكما تتجمع الحروف لتكوين الكلمات، تتجمع الأحماض الأمينية لتكوين سلاسل البروتينات.
على الرغم من محدودية ”الأبجدية“ الحيوية «الأحماض الأمينية العشرين»، إلا أن ”مفرداتها“ «البروتينات» تتسم بتعقيد وغنى لا يُقارن بمفردات لغة البشر. ففي لغاتنا، تتكون الكلمة غالبًا من بضعة أحرف. حتى الآن، اكتشف العلماء ملايين البروتينات، لكن التقديرات تشير إلى أن عددها في الطبيعة قد يصل إلى عشرات المليارات. على سبيل المثال، تنبأت أداة الذكاء الاصطناعي AlphaFold من ديب مايند بهياكل حوالي 200 مليون بروتين، تغطي معظم البروتينات المعروفة. كما يحتوي بنك بيانات يونيبروت على أكثر من 85 مليونًا من تسلسل البروتينات. ومع ذلك، لا نزال نجهل وظائف معظم هذه البروتينات، حيث تظل معرفتنا بها أشبه بمعرفة طفل يتعلم تهجئة الكلمات دون فهم معانيها. يُقدِّر العلماء أن جسم الإنسان وحده يحتوي على حوالي 20 ألف جين ينتج بروتينات، لكن التنوع في الطبيعة أوسع بكثير. ولإعطاء صورة لتعقيد المشهد للقارئ، يقول عالم البيولوجيا الجزيئية مايكل دينتون: ”لنتصور تعقيد الحياة، يجب أن نكبّر الخلية ألف مليون مرة لنرى تعقيدها كمدينة عملاقة“.
إن هذا الغوص في أعماق لغة الحياة يقودنا حتمًا إلى شعور عميق بالتواضع العلمي. فما اكتشفناه لا يمثل إلا جزءًا ضئيلًا من مكتبة الوجود الهائلة. إن هذا التعقيد اللامتناهي في بناء البروتين الواحد، وقدرته على أداء وظائف حيوية متخصصة، يفرض علينا الاعتراف بأن معارفنا في علوم الأحياء والطبيعة ما تزال في مراحلها الأولى. وكما قال الفيلسوف الإغريقي سقراط: ”كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئًا“.
إن هذا الإدراك يدفعنا إلى التأمل بعمق في الإبداع الكامن وراء هذه النظم البيولوجية المتقنة، والاعتراف بأن هذا النظام المعجز لا يمكن أن يكون وليد الصدفة العشوائية. فبنية البروتين هي دليل قاطع على نظام شامل، دقيق، وغاية في الحكمة.
هنا يتجلى القول الحق من القرآن الكريم، الذي يرشدنا إلى حدود إدراكنا البشري، ويعظم الخالق الذي أتقن كل شيء:
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: الآية 14]
وإشارة إلى ضآلة ما أوتيناه من علم مقارنة بعظمة الخلق، تأتي الآية الكريمة:
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: الآية 85]
إن التحدي اليوم يكمن في استمرار سبر أغوار هذا البحر المجهول من المعرفة الحيوية، واستكشاف كنوزها التي لم تُستخرج بعد. فالإقرار بقلة العلم ليس دعوة للتوقف، بل هو حافز للمزيد من البحث والتدبر في هذا الكون المليء بالأسرار.