آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

ليلة الزفّة

هاشم الصاخن *

موضوع شائك؛ بل قد يكون مدمّرًا للأسر، ومهدّدًا لاستقرار الأجيال؛ فالمال هو عصب الحياة، وبدونه - بعد إرادة الله سبحانه - لا تستقيم المعيشة ولا تستمر على وتيرة مقبولة.

ومع أنَّ الحديث عن مصاريف الزَّواج ليس جديدًا؛ وإنَّما تردَّد كثيرًا حتَّى أصبح مستهلكًا، إلَّا أنَّ السُّؤال يفرض نفسه: إلى متى سنبقى ندور في ذات الحلقة؟

فالمصاريف لم تعد مرتبطة فقط بحفلات الزَّواج، وصارت تنهك العائلات في مختلف المناسبات، حتَّى بتنا نرى بعض الأفراح تُدار بعقليَّة الصفقات التِّجاريَّة وما تحمله من أعباء مباغتة؛ لكننا هنا نقف قليلًا عند ليلة الزَّفّة تحديدًا؛ تلك الليلة التي تحوَّلت عند البعض من مناسبة سعيدة إلى عبء ثقيل يكسر ظهور أولياء الأمور.

ومن الوهلة الأولى، تتجه الأنظار مباشرة إلى الجانب النِّسوي؛ حيث تكمن أكبر التَّكاليف: فستان الزفاف، صالات الأفراح، الكوشات، الكوافيرات، المصوِّرات، ”الجلوات“، الاستقبالات، التَّوديع، وحتَّى الفنادق والسفريات. سلسلة لا تنتهي من الالتزامات المرهقة، تجعل وليّ الأمر ممسكًا بالآلة الحاسبة كأنَّه يدخل معركة خاسرة سلفًا. وما يجري في العقود المبرمة مع أصحاب الصَّالات ومقدِّمي الخدمات ليس إلَّا نسخة حديثة من ”داحس والغبراء“، مع فارق أنَّ معركتنا هذه لا تنتهي بعد أربعين عامًا، وتتجدد مع كلِّ مناسبة!

ومع كلِّ هذا المشهد، كان لا بدَّ أن نسلِّط الضَّوء على الجانب النِّسوي تحديدًا؛ لأنَّه أصبح المحرِّك الأساسي لمعظم هذه المصاريف، والعنصر الأكثر تأثيرًا في تضخيم كلفة ليلة الزفَّة.

من هنا تبدأ المشكلة… فالمكلّف بهذه المصاريف، سواء كان والد العروس أو وليّ أمرها، يجد نفسه أمام التزام يفوق قدرته. فإن كان ميسور الحال أرهقته الحسابات، وإن كان محدود الدَّخل زادته الهموم. ومع غياب المدخرات وقلَّة الرَّصيد، يصبح لزامًا عليه أن يلجأ إلى القروض أو الاستدانة، ليغطِّي ما فُرض عليه من نفقات. وهكذا تتحوَّل ليلة الفرح من بشارة سعادة إلى كابوس مالي يثقل القلب قبل الجيب.

ويصطدم هذا المتكفِّل بصخرة العرف السَّائد، حيث يُنظر إلى هذه المصاريف المبالغ فيها وكأنَّها جزء لا يتجزأ من الفرح، مع أنَّها لا تمتُّ للعقل ولا للمنطق بصلة. فهل يُعقل أن تُدفع عشرة آلاف ريال أو أكثر لمصوّرة لا يتجاوز عملها بضع ساعات؟

تدخل القاعة كأنَّها ”المنقذ الأعظم“، تلتقط عشرات الصُّور، وتوجّه العروس بالابتسامة والوقفة والنَّظرة، وكأنَّها تدير فيلماً هوليوديًّا، ثمَّ تغادر لتستمتع، تاركةً أهل المناسبة يلعقون مرارة الفاتورة. والأطرف أنَّ هذه المصوّرة - التي قبضت كامل المبلغ مقدَّمًا - قد لا تُسلِّم المادة المصوّرة إلَّا بعد ستة أشهر أو أكثر، لتعيش العروس وعائلتها فترة انتظار أطول من انتظار نتيجة بعثة دراسيَّة! وكأنَّ الصور تحتاج إلى رحلة حول العالم قبل أن تعود إلى أصحابها.

وإذا كانت المصوّرة تحظى بكلِّ هذا المبلغ، فالكوافيرات بدورهن يطلبن مبالغ خياليَّة من أجل ساعات معدودة من المكياج والتَّسريحات، وكذلك الحنّاية التي لا تتردّد في فرض آلاف الريالات مقابل نقوش لا تدوم سوى أيَّام معدودة

مشاهد أشبه بالكوميديا السَّوداء، ضحيتها جيب المتكفّل وراحته النَّفسيَّة. والأعجب من ذلك فستان الفرح، الذي قد يتجاوز سعره عشرات الآلاف لمجرَّد ليلة واحدة! تُرهق العائلة في البحث عن التَّصميم الأحدث والقماش الأندر، وكأنَّ ابنتهم ستقف على منصة عرض عالميَّة، ثمَّ ما إن تنقضي السَّاعات حتَّى يُطوى الفستان ويُركن في الخزانة أو يُعرض للبيع بنصف قيمته، بعد أن كان ”حديث المجالس“ ليوم واحد فقط. فستان لا يعيش أكثر من ليلة، لكنه يترك في الجيوب جرحًا يستمر لسنوات.

والمضحك المبكي أنَّ بعض الحاضرات قد لا يُعجبهن الفستان أصلًا، فتسمع من تقول: ”التَّصميم عادي“، وأخرى تهمس: ”كنت أتوقع الفستان أرقى من ذلك!“ وكأنَّ المبلغ المدفوع كان لأجل إرضاء ذوق لجنة تحكيم لا ترحم. وكذلك الكوشة التي تُصرف عليها آلاف الريالات لتُعرض لساعات ثمَّ تُفكك كأنَّها ديكور مسرحية منتهية، أو الفندق الذي يُدفع فيه مبلغ ضخم لليلة واحدة، ثمَّ يرحل العروسان تاركين خلفهما فاتورة لا تقل ثقلًا عن حقائب السفر.

هذه التَّكاليف المرهقة لا تقف عند حدود ليلة الزفّة؛ بل تترك أثرًا سلبيًا يمتد لسنوات. فهناك من يبدأ حياته الزَّوجية مثقلًا بالديون، فيقسِّم راتبه بين أقساط البنك ومطالب البيت، فلا يهنأ لا بزوجة ولا ببيت جديد. وهناك من يعجز أصلًا عن الإقدام على الزواج، فيؤجل مشروع حياته؛ لأنَّ حساباته لا تحتمل مغامرة بهذا الحجم.

وتزداد المعاناة حين يجد المتكفّل نفسه في مواجهة مباشرة مع أهل بيته: هو غير مقتنع أصلًا بهذه المصاريف، لكنّه لا يريد أن يعكّر فرحتهم ولا أن يُتَّهم بالتَّقصير. فيظلّ حائرًا بين أن يساير مطالب ”أصحاب القرار“ داخل المنزل، أو أن يقف صادمًا معلنًا رفضه، وهو يعلم أن موقفه قد يُفسد اللحظة المنتظرة. وهنا يبدأ التَّنازل تلو الآخر، حتَّى ينتهي به الأمر مرهقًا ماديًا ونفسيًا.

والأخطر من ذلك أن هذه المصاريف أصبحت معيارًا اجتماعيًا، تُقاس به قيمة العروس أو مكانة العائلة، مع أنَّ جوهر الزَّواج أبسط بكثير من هذه المظاهر. وهنا ينشأ صدام بين من يملك ومن لا يملك، بين من يستطيع مسايرة هذه العادات وبين من يعجز عنها، فتظهر الفوارق الطبقيَّة داخل المجتمع وتُزرع بذور الحسد والغيرة في النُّفوس.

لذلك، على النِّساء أن يتذكّرن دومًا أنَّ من سيتحمَّل هذه المصاريف هو الأب أو الزَّوج أو وليّ الأمر، وهو في الغالب يكدّ ليوفّر لقمة العيش، لا ليتباهى أمام النَّاس. فليكن في قلوبكن شيء من الرأفة، ولتتنازلن قليلًا عن بعض المظاهر التي لا تزيد الفرح إلَّا كلفة. فالمصوّرة ليست معيارًا للسعادة، والكوافيرة مهما بالغت فلن تغيِّر في جوهر الزَّواج، ولن تمسَّ جوهر قلب المرأة الحقيقي، والحنّاية لا تستحق كلَّ تلك الأرقام، وفستان الفرح - مهما ارتفع ثمنه - لا يتجاوز كونه قطعة قماش تُرتدى لساعات ثمَّ تُطوى.

إنَّ التَّخفيف من هذه المطالب لا ينقص من قدر العروس؛ وإنَّما يرفع قدرها حين تُظهر عقلًا راجحًا ورحمة بأهلها. وما أجمل أن تُحفر ليلة الزفَّة في الذَّاكرة كبداية مطمئنة لا كفاتورة ثقيلة.

سيهات