تيارات فكرية ومفكرون «2»
تعج منطقة الشرق الأوسط بالصراعات والاستقطابات والخطوط والمدارس الفكرية والأفكار والمنظّرين. حاولت وما زلت أحاول أن أقرأ رسالة وهدف بعض المفكرين في حواضر منطقة الشرق الأوسط، لا سيما أهل التأثير والأثر. فعليًا لا أستطيع أن أحصر في مقال قصير كل المفكرين وأفكارهم، إلا أنني سأورد في هذا المقال شاهدًا للمدارسة، وهو الراحل محمد شحرور. المهندس الدكتور شحرور هو مهندس مدني، سوري الجنسية، وخريجُ جامعة سوفيتية وإيرلندية. وجدت له عدة كتب تتناول القرآن وتفسير آيات معينة وأحكام الإسلام والمجتمع الإسلامي، ولم أتمكن من الحصول على أيِّ كتاب له في الإنترنت في حقل تخصصه المهني «هندسة التربة».
البعض من المفكرين العرب والمسلمين خلط بين تفسيره الشخصي للقرآن الكريم وفلسفة لينين وماركس وإنجلز وغيرهم، ومثال ذلك المهندس الراحل محمد شحرور. وقبل أن أسترسل في الكتابة، أود أن أتنصل من أي تلبيس / توظيف خاطئ للمقال، أو ليِّ عنق بعض مفرداته وجمله، أو تحميله أكبر من هدف محتواه. فالمقال محاولة تفكيكية لأطروحة مصطلح ”مفكر“ واستقراء أفكاره ومشروعه النهضوي، مع حفظ كامل الاحترام والكرامة لشخصه ومشاعر مريديه. والحوار حوار أفكار وليس حوار أسماء أو أشخاص.
يُنسب للنبي حديث شريف وهو يخاطب الإمام علي بن أبي طالب مفاده: «حاربتهم على التنزيل وتحاربهم على التأويل». ومع وجود النص القرآني في أيدي الجميع، بدأ النقاش يتكاثر على التفسير والتأويل للكلمات القرآنية على امتداد القرون وما زال حتى الساعة. في القرن الحالي، ظهرت أحزاب ومجاميع فكرية ومفكرون ومستشرقون ومراكز بحث ومراكز دراسات استراتيجية ومجاميع إدارة تغيير اجتماعي وديوانيات ثقافية متعددة ومتنوعة، تستنطق آيات القرآن بزوايا مختلفة ومتنوعة؛ وبعضها غريب جدًا ومنطقها غير منتظم وروح الإسلام ومعانٍ سقيمة وبعيدة عن عظمة الشريعة. وطبيعي على مر الدهور أن يوظف بعض الأشخاص بعض الآيات القرآنية لبلوغ مآربهم المريبة. والعاقل الراشد المدرك يميز هذه التوظيفات السيئة بمجرد سماعه لخطاب المتحدث.
بالمجمل، اعتمد المهندس الراحل محمد شحرور المنهج اللغوي في تحديد معاني الألفاظ ودلالتها وما يترتب عليه من الأحكام، ونادى بعدم وجود الترادف في اللغة، وفسر القرآن على أساس ذلك.
عندما تريد أن تحصر خطوط التماس بين مفكر عربي مثل الشحرور والتيارات الإسلامية المعاصرة، سواء التقليدية منها أو الإصلاحية التجديدية، تجد أن أصحاب منهج التفسير اللغوي اصطدموا مع التيار الإسلامي العام «أصحاب التفسير الشرعي» في تفسير معنى الصلاة «دعاء / عبادة بشكل محدد»، تفسير الزنا في آية ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء: 32]، الخمر ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...﴾ [البقرة: 219]، الطلاق، حدود ستر العورة، الثلث في الإرث... إلخ. وتلكم التوظيفات المتشابكة آتت أُكلَها في بعض المجتمعات ذات الانفتاح السياحي الكبير.
تستضيف قنوات التلفزة الفضائية المختلفة متحدثين كُثرًا في حوارات أيديولوجية ذات قوالب ونماذج فكرية ونسخ مدارس إسلامية وغير إسلامية متعددة ومتفاوتة تتأرجح بين الإفراط والتفريط. بعض الوجوه المتحدثة في بعض القنوات الفضائية تم الترويج لها إلى حد كبير جدًا، حيث تجاوزوا نجومية أبطال السينما العالمية! ثم تنكشف مع الأيام أن هناك ممسكات عليهم مثل فضائح جنسية أو تجارة أعضاء بشرية أو تهريب ممنوعات أو استلام رشوة. فينصدم المريدون نفسيًا عند سماعهم بذلك ويكفرون بنموذج القدوة. والبعض من المريدين بعد ذلك ينقلب على القيم والمفاهيم حتى الأساسية منها ويعمم الحكم على الجميع بأنهم منافقون أو مرتشون أو فسقة. وكذلك الضخ الإعلامي الهائل والمتتابع من قبل بعض القنوات المناوئة في تضعيف / التشكيك في بعض الأحكام الشرعية خلق عدة انقسامات بين أبناء الأجيال المختلفة: فئة الشباب وغير الشباب داخل مجتمعات متعددة، بل حتى داخل أتباع المدرسة الفكرية الواحدة؛ لا بل داخل البيت العائلي الواحد. فهناك من يبحث عن التسهيل لنفسه في تطبيق الأحكام الشرعية حد التفريط والاستهانة والاستخفاف. وهناك من الشباب من مل وتكدر من الجمود في الطرح الفكري لبعض المشايخ، حد الإعراض والتفلت والشرود. وهناك من وصل به التطرف حد إلغاء أي مظاهر من مظاهر المدنية الحديثة وجحود العلم التطبيقي / التجريبي. وهناك نموذج يود الانتقام والتشفي من بعض أفراد مجتمعه أو وطنه عبر التهكم على دينهم بدل الانتقاد للممارسات التقليدية المغلفة بغلاف الدين. بزوغ بعض المتكلمين والمفكرين الذين يناكفون أصحاب المدارس الفكرية التقليدية القائمة جعل طيفًا كبيرًا من الشباب يتفاعل معهم حد التبني للأفكار، وأضحى البعض منهم مريدين لأولئك المتحدثين ممن يسوغون إلغاء الستر وشطب تحريم المسكر و... و... إلخ.
يطرح الإسلام هيكل برنامج كامل للإنسان مع خرائط طرق للفلاح، ويغطي عباداته ومعاملاته وأخلاقه وقيمه وحفظ كرامته ودمه وماله. إلا أنني لاحظت أن البعض ممن يطرحون أنفسهم كمفكرين يطلون عبر الشاشات التلفزيونية الفضائية ليس للإصلاح، والدعوة للمراجعة الناهضة وتصحيح الممارسات، بل ليشاكسوا الفهم الشرعي لبعض مظاهر الدين العبادية بقصد النكاية والاستفزاز ولفت الأنظار وإثارة اللغط والتشويش على أبناء الجيل الصاعد وإثارة الأغبرة وكسر بعض نواميس الأخلاق.
أضحى حفظ الشباب من الغزو الثقافي والفكري وصيانة الهوية من السرقة أمورًا ملحةً وضروريةً، وعلى الجميع النهوض بها، وعليه أرى التالي:
1. الاهتمام والرعاية والاحتضان للشباب والفتيات حتى إن شطح أحدهم بعض الشيء.
2. مدارسة الشباب والفتيات المغرر بهم من قبل بعض الملاحدة والمشوشين فكريًا والمصدومين حضاريًا.
3. تطوير أدوات وأساليب الخطاب والحوار والنقاش بين أفراد المجتمع، لا سيما الشباب والفتيات.
4. عند عقد حوار أو نقاش، يجب توظيف أدوات الإقناع المنطقي وتبني سرديات متماسكة سلسة بعيدة عن التهويل / التفجع / التضخيم المفرط / التقديس المغالي /... إلخ.
بروز التسويق لموجة التفكير الناقد في بعض المجتمعات بشكل ملفت ومتسارع، فهمه بعض المتلقين له على أنه تهشيم للنواميس المنطقية وتفكير خارج الصندوق دون أيِّ ضوابط أخلاقية أو عقلية أو إيمانية أو منطقية. مع شديد الأسف، عقدةُ النقص لدى البعض من بعض البيئات الاجتماعية أو عقدة حب الصدارة تم توظيفها من قبل بعض المستغلين المهرة في التسويق بشكل غير أخلاقي عبر إجادة بيع الوهم لأولئك الضعفاء أو محبي البروز الإعلامي أو تجار الوجاهة الفكرية.
هناك عدة مفكرين حضاريين ويحملون تطلعات هادفة، مثل مالك بن نبي - جزائري - خريج جامعة السوربون الفرنسية، والسيد محمد باقر الصدر، وغيرهم يوصفون بأنهم فلاسفة ومفكرون ولهم رؤى ومنطق تفكيكي فلسفي في مجال الحضارة والاقتصاد والمنطق. كتاباتهم شبه محصورة في تداولات تتم بين النخب الثقافية وتُدرَّس أطروحاتهم في أماكن عدة.
• إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلامًا مجردًا.
• وإنها لشرعة السماء: غير نفسك، يتغير التاريخ.
كم هو عجيب هذا الزمان! إنسان صاحب شهادات عليا ومنتحل صفة مثقف وقارئ نهم وأكاديمي ومفكر ومرتاح نفسيًا وماديًا، يرى جراحات أبناء جلدته وضعف بعض إخوانه وتشرذم بعض أجزاء مجتمعه، فيزيد الجرح ويفتت المفتت ويفسد العلاقات بدل أن يصلحها، ويغرس سموم آرائه المبتورة في جسم بعض أبناء مجتمعه ويضلل صغار الرأي من الشباب ويتفرج على تشتتهم ولا يسعى لوحدة صفوفهم. والأدهى والأمر أن ذاك الإنسان، البعيد عنا وعنكم، مع كل المساوئ التي يقترفها يدعي أنه مفكر ويدعو لنفسه وهو يزيد الجرح جراحًا في جسم حاضنته الاجتماعية بدل أن يضمده أو يساهم في علاجه. شخصيًا، كنت أتمنى أن أرى أطروحة فكرية كاملة وشاملة لمعالجة بعض التحديات الاقتصادية أو الفكرية أو إطلاق حملة وقاية للحفاظ على الهوية من أولئك الناس ممن تطلق عليهم بعض القنوات لقب ”مفكرون“. فيا من يرى أنه مفوَّه ومفكر، لطفًا بدل البكاء على خراب مالطة، عمِّر أرضًا واسقِ شجرةً وتبنَّ مشاريعَ ليتامى وأصلح ذات البين و... و.... إلخ.
عصرنة الموروث الديني والهوية الثقافية لا تعني التنازل عن القيم والذوبان في التيار الأقوى عالميًا، ولكن تعني الثبات والاصطفاف مع الحق الأبلج وزيادة جرعة اليقين في قلوب العالمين.
الواقع: شيءٌ ملفتٌ انخراطُ الأطباء والمهندسين والصيادلة في الإنتاج الفكري والأدبي والديني والتربوي. إلا أنني شخصيًا أعول على المزيد من الإنتاج العلمي لكي تكون حواضر المدن الكبرى مبدعة ومنتجة وبيئة حاضنة لكوادرها البشرية العلمية الرصينة.