بين مرض الغيبة واجترار الذنب
يشير علماء النفس إلى أن العقل البشري أكثر استعدادًا للاحتفاظ بالسلبيات التي يراها ويسمعها، مقارنةً بالإيجابيات. ويُعزى ذلك إلى أن الإنسان مبرمج بيولوجيًا على حماية نفسه، فالسلبيات ترتبط إلى حدٍّ ما بالخطر، وتجاهلها قد يهدد البقاء. أما الإيجابيات فيُنظر إليها باعتبارها السلوك الطبيعي المتوقع، لذلك تمرّ غالبًا بلا تقدير يوازي أثرها. هذا الأمر هو الذي يجعل المذنب - شاء أم أبى - في دوامة من اجترار الأخطاء، فيعاقب نفسه بالشعور بالذنب والعار. وحين يضاعف المجتمع هذا العبء بتذكيره بزلاته أو بتسليط الضوء على عثراته، يصبح الألم النفسي جرحًا مفتوحًا؛ يهدأ حينًا، ثم يعاود الاشتعال كلما أُثير من جديد.
إن ميل الإنسان إلى التفوّق طبيعي في ذاته، لكنه قد ينحرف حين يتلوّث بالحقد، فيتحول إلى رغبة في تحقير الآخرين بدلًا من السعي إلى التميز بالفضائل. عندها يجد العقل الباطن نفسه مشدودًا إلى تتبّع العيوب وتضخيم الأخطاء أكثر من تذكّر الحسنات، في محاولة لإثبات تفوّق زائف. يشبه ذلك عدّاءً في سباق، فإذا عجز عن بلوغ خط النهاية قبل غيره، لجأ إلى عرقلتهم بدلًا من مضاعفة جهده. وقد عبّر فرنسيس بيكون عن هذه الحقيقة في مقالته الحسد حين قال: «من لا فضيلةَ فيه يحسدُ دائمًا فضيلةَ غيره؛ فالعقول إمّا أن تتغذّى على خيرِها هي، أو على شرِّ الآخرين، ومن حُرم الأولى افترس الثانية». وهكذا تصبح النفس أسيرة نزعة خفية تمنحها لذّة الانتصار، بينما هي في حقيقتها تجرّد الآخرين من قيمتهم وتشوه صورتهم في أعين الناس. وهو سلوك لا يخلو من الانحراف النفسي والخلل الأخلاقي؛ إذ إن النفس، وإن كانت شديدة النزوع إلى الافتراس، فإن كمال العقل في كبحها وتوجيهها. فالقوة الحقيقية لا تكمن في إظهار عيوب الآخرين، بل في شجاعة المرء على نقد ذاته والسعي إلى إصلاحها.
إن استسلام الإنسان للحديث عن مثالب الناس، يتفاقم تدريجيًا حتى يصبح مرضا يشبه الإدمان، بحيث لا يستطيع أن يجلس مجلسا يخلو من الغيبة والنميمة والبهتان. وهنا تكمن خطورته، إذ يتحول إلى سلوك ينهك صاحبه ويضر بمن حوله. غير أن السبيل إلى النجاة ممكن: فكل مرة يقاوم فيها المرء رغبته تلك، يزداد عقله قوة وتشتد إرادته حتى تقف سدًا منيعًا في وجه نوازع نفسه. أما من يستمرئ إعابة الناس ولا يجد في داخله رغبة في الإقلاع عنها، فإنه يصعب أن يُرتجى صلاحه، وسيبقى عنصر فساد في المجتمع ما لم يغيّر من نفسه. وفي المقابل، لا ينبغي للإنسان أن يمارس اجترار زلاته ليعاقب نفسه توبيخًا هوسيًا؛ فالإنسان بطبعه خطّاء، والكمال كل الكمال في الإقلاع عن الأخطاء والتزين بالفضائل. وقد ورد في الأثر: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.