نم قرير العين أبا فراس… لقد علّمت جيلًا بأكمله

منذ أن كنت صغيرًا، تعلّمت من الدكتور عبدالله عبدالمحسن ”أبو فراس“ رحمه الله ما لم أتعلمه في صفوف الدراسة. كان يكبرني سنًا ومقامًا، لكنه كان قريبًا منّا نحن البراعم، يرافقنا بتوجيهه ويعلّمنا بالصمت أحيانًا أكثر من الكلمات. لم أكن وحدي من تعلّم منه، بل جيلٌ كامل عرف معنى الالتزام، والجرأة، والموقف، والانضباط في كل ما يتعلق بالفكر والمسرح والعمل التطوعي.
عرفته من خلال نشاطي المسرحي في نادي الهدى، وكنت أشارك مع زملائي في عروض تُقام بعد أوقات المدرسة. كنا نأتي في المساء متعبين، لكنه كان ينتظرنا بابتسامته المعتادة، يشجّعنا ويوجّهنا ويُصرّ على أن نُعيد المشهد مرة وثانية وثالثة حتى نصل إلى الأداء الذي يرضيه، لا لذاته، بل للمستوى الذي يؤمن أننا قادرون على بلوغه. لم يكن يرانا أطفالًا نلعب، بل ممثلين في مشروعٍ ثقافي يستحق الاحترام والجدية.
عندما تأهلنا ذات مرة للمشاركة في عرض مسرحي في منطقة الرياض، تردّد بعض الأهالي في السماح لنا بالسفر لصغر سنّنا. كان الموقف حساسًا، وكنّا متحمّسين، لكنه لم يتركنا في منتصف الطريق. ذهب بنفسه إلى بيوت أولياء الأمور، وتحدّث إليهم بهدوء وثقة، فكان اسمه كافيًا لتطمئن له القلوب، ويكفيه فخرًا أن جميع الأهالي وافقوا دون تردد. كانت هذه من المرات الأولى التي أشعر فيها بثقة الكبار ونحن صغار، بفضله، وبفضل ما زرعه فينا من إيمان بالذات.
لم يكن المسرح عنده مجرد خشبة، بل حياة. لم يكن العرض مجرد مشهد، بل رسالة. كان يؤمن بأن المسرح وسيلة لبناء الشخصية، وتعزيز الهوية، وغرس القيم، وليس فقط للتسلية. لهذا كانت مسرحياته تُعرض في أوقات منتقاة مثل ليالي الأعياد، لتظل حاضرة في الذاكرة، رغم بساطة الإمكانيات. وقد كتب كثيرون بعد رحيله عن دوره الرائد في مسرح الطفل في الخليج، وهو ما لمسناه نحن، الذين كنا جزءًا من التجربة.
لكن إنجازاته لم تتوقف على المسرح. فقد كان باحثًا ميدانيًا جادًا، يطرق أبواب كبار السن ويجمع التراث الشفهي قبل أن يضيع. لم ينتظر أن تأتيه المعلومات، بل كان يسعى إليها، يوثّقها ويعيد صياغتها ويحفظها من الاندثار. عمله في تحقيق ديوان الشاعر التاروتي عيسى المحسن ليس إلا نموذجًا من نماذج عطائه في هذا المجال، وقد أصبحت كتبه اليوم مراجع يعتمد عليها الباحثون في دراسة التراث المحلي والثقافة الشعبية.
وإلى جانب كل ذلك، كان إداريًا ناجحًا، من أوائل من أسّسوا نادي الهدى، وتولّى رئاسته لأكثر من دورة، داعمًا للأنشطة الثقافية والرياضية. فتح أبواب النادي أمام الطاقات الشابة، وساهم في إنشاء مكتبة تُعد من أكبر مكتبات الأندية الرياضية، ولم يكن يتردد في شراء الكتب القيمة مهما كانت كلفتها، مؤمنًا بأن بناء العقول لا يقل أهمية عن أي نشاط آخر.
شهادتي فيه تختلف عن شهادات الآخرين لأنها ليست من بعيد، ولا من قراءة في أوراق، بل من تجربة شخصية عشتها معه يومًا بيوم. نعم، كتب كثيرون عنه بعد وفاته، وهذا طبيعي، لكنني كتبت عنه قبل رحيله، في سياق حديثي عن نشأتي المسرحية، لأنني أدركت منذ زمن أنه لم يكن رجل مرحلة، بل صانع أثر.
رحل الدكتور عبدالله عبدالمحسن وترك خلفه أثرًا لا يُمحى. ترك طلابًا أصبحوا معلمين، وممثلين أصبحوا محترفين، وكتبًا أصبحت مراجع، وسيرة بقيت ناصعة. ترك قلوبًا تدعو له دون أن تنساه، وذاكرة لا تزال تحفظ صوته وتوجيهه وابتسامته.
رحمك الله يا أبا فراس، بقدر ما زرعت فينا من طموح، وبقدر ما ساعدت من شباب، وبقدر ما أحببت هذه الأرض وعملت من أجلها. نسأل الله أن يجعل علمك وعملك وذكرك صدقة جارية، وأن يُسكِنك فسيح جناته، ويجزيك عن هذا الجيل خير الجزاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون.