آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

السم الشهي: كيف تغزو الأطعمة والأفكار الضارة حياتنا

غسان علي بوخمسين

نلاحظ جميعًا في زمننا الراهن تسارع وتيرة الحياة في كل المجالات، ومن مصاديق هذا التسارع تدفق الأطعمة والأفكار بسهولة ووفرة مغرية. لكن هذا التدفق جلب معه ظاهرتين خطيرتين تهددان صحة الإنسان الجسدية والفكرية: الأكل الضار، ”junk food“ «الوجبات السريعة»، والفكر الضار، ذلك الخطاب أو المحتوى الرقمي السطحي الذي يتسلل إلى العقول دون تمحيص. كلاهما يشترك في جاذبية لحظية سريعة الزوال، لكنهما يتركان آثارًا مدمرة على الفرد والمجتمع.

الأكل الضار: متعة لحظية بثمن باهظ

الأكل الضار، أو ما يعرف بـ ”الوجبات السريعة“، هو غذاء يغري الحواس بنكهته اللذيذة وتحضيره السريع ووفرته في كل وقت ومكان، بيد أنه يخلو من القيمة الغذائية الجوهرية. فهذه الأطعمة غنية بـ الدهون المشبعة، والسكريات المكررة، والملح، والنشويات البسيطة، وتُعزز بمضافات صناعية تُطيل عمرها وتُحسن مظهرها وطعمها. في المقابل، تفتقر إلى المواد الصحية مثل البروتينات، والألياف، والفيتامينات، والمعادن التي يحتاجها الجسم ليعمل بكفاءة. فقد حذرت الدراسات الصحية منذ عقود من ارتباط هذه الأطعمة بأمراض مزمنة مثل السمنة، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والشرايين. فوجبةً واحدةً من هذه الأطعمة قد تحمل سعرات حرارية تفوق حاجة الإنسان اليومية، دون أن تقدم ما يغذي الجسم حقًا. وفي خطوة تستحق الإشادة، ألزمت السعودية مقدمي الأطعمة بالإفصاح عن السعرات الحرارية في منتجاتهم، مما كشف للمستهلكين حجم ما يتناولونه دون وعي، ودفع الكثيرين نحو اختيارات غذائية أكثر صحة، مثل الفواكه، والخضروات، والبروتينات الطبيعية.

الفكر الضار: سمّ يتسلل إلى العقول

على غرار الأكل الضار، يبرز الفكر الضار كخطاب سطحي يفتقر إلى القيمة الفكرية أو الأخلاقية، لكنه ينتشر بسرعة بفضل جاذبيته وسهولة تداوله. هذا الفكر يتجلى في دعوات الكراهية، والتعصب الطائفي أو المناطقي، والإشاعات المغرضة، والمعلومات المغلوطة التي تُروَّج دون تدقيق. تنتشر منشورات على منصات التواصل الاجتماعي، تحمل ادعاءات طبية أو اجتماعية غير موثوقة، غالبًا ما تُنسب إلى أشخاص غير مؤهلين، مما يُضلل الجمهور ويزرع بذور الفرقة. مثل الأكل الضار، يُقدَّمُ هذا الفكر في قالب جذاب، سهل الاستيعاب، لكنه يترك آثارًا مدمرة: استقطاب اجتماعي، وفقدان الثقة في المصادر الموثوقة، وتفشي التفرقة. إن الفكر الضار هو سمّ عقلي يتسرب إلى الذهن في غفلة، تمامًا كما تتسلل المواد الضارة إلى الجسم دون أن يدرك المرء خطورتها.

مشاكل المحتوى الهابط في الميديا القصيرة

في عصر المقاطع القصيرة Shorts على يوتيوب وReels على إنستغرام وغيرها، أصبح المحتوى الهابط - ذلك الذي يعتمد على الإثارة الرخيصة والسطحية - سمة بارزة تهدد جودة الاستهلاك الرقمي. غالبًا ما تكون هذه الفيديوهات القصيرة، التي لا تتجاوز الدقيقة، مليئة بتحديات رقص سخيفة، مزاح بدون سياق، أو معلومات مغلوطة تُروَّج لجذب المشاهدات السريعة، مما يجعل أكثر من %90 منها هُراءً لا قيمة له. هذا المحتوى يعزز الإدمان على الدوبامين الفوري، مما يدمر التركيز والانتباه، حيث يفقد المستخدمون ساعات يوميًا في دوامة لا تنتهي، مما يؤثر سلبًا على الإنتاجية والصحة النفسية. كما يؤدي الإدمان إلى ضعف جودة النوم، وتقليل الصبر تجاه المحتوى العميق. بالإضافة إلى ذلك، تواجه المنصات تحديات مثل التغييرات الخوارزمية المتكررة، التي تفضل الكم على الجودة، والتوقعات العالية للإنتاج السريع، مما يشجع على إنتاج محتوى منخفض الجودة للبقاء في المنافسة. في النهاية، يساهم هذا المحتوى في تدهور القدرات المعرفية، حيث يقلل من القدرة على التركيز الطويل ويشجع على الاستهلاك السلبي، مما يعكس ”تسممًا فكريًا“ يشبه تأثير الأكل الضار على الجسم.

دور خوارزميات الذكاء الاصطناعي في نشر المحتوى الهابط

تلعب خوارزميات الذكاء الاصطناعي دورًا حاسمًا في نشر المحتوى الهابط على وسائل التواصل، حيث تُفضل المحتوى الذي يولد تفاعلًا عاليًا، مثل المنشورات العاطفية أو الجدلية، حتى لو كانت منخفضة الجودة أو مضللة. هذه الخوارزميات، المصممة لتعظيم الإيرادات من خلال الاحتفاظ بالمستخدمين لأطول فترة، تروج للمحتوى الذي يثير الدوبامين الفوري، مما يؤدي إلى انتشار المعلومات المغلوطة والآراء المتطرفة. بالإضافة إلى ذلك، يساهم الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنشاء «المحتوى الرديء» ”AI Slop“، الذي ينتشر دون تمييز، مما يضر بالمبدعين الحقيقيين ويملأ المنصات بمواد غير دقيقة. كما أنها تخلق فقاعات تصفية، حيث يُعرض المستخدمون لمحتوى يعزز آراءهم، مما يعمق الاستقطاب الاجتماعي ويقلل من الجودة العامة للمعلومات.

الأكل والفكر الضاران يتشابهان في جوهرهما. كلاهما يعتمد على الإغراء السريع والإشباع الفوري، سواء كان ذلك بطعم لذيذ أو فكرة تبدو براقة. كلاهما ينتشر بسهولة بفضل توفره الواسع، سواء في مطاعم الوجبات السريعة أو على منصات رقمية تتيح التداول السريع للمعلومات. لكن الوعي بخطورة الأكل الضار قد تقدم على الوعي بالفكر الضار. فبينما يحرص الكثيرون اليوم على قراءة ملصقات الأطعمة، لا يزال البعض يتقبل الأفكار دون تمحيص، مما يعرضهم لـ ”تسمم فكري“ يهدد تماسك المجتمع.

نحو وعي مزدوج: غذاء وفكر نقي

كما أيقظَ الوعيَ الصحيَّ المجتمعات لتغيير عاداتها الغذائية، ينبغي أن يمتد هذا الوعي إلى ما نستهلكه من أفكار. فكما يتفحص المرء مكونات طعامه، عليه أن يتحرى مصادر المعلومات ومدى دقتها. توصي منظمات مثل اليونسكو بتعزيز التفكير النقدي ومحو الأمية الإعلامية للتصدي للمعلومات المغلوطة، فالتحقق من المصادر، والرجوع إلى الخبراء المعتمدين، والابتعاد عن المنشورات العشوائية، هي خطوات أساسية لتجنب التسمم الفكري.

على الصعيد المجتمعي، تقع مسؤولية كبيرة على الحكومات والمؤسسات التعليمية. فكما ألزمت الجهات الصحية المطاعم بالإفصاح عن السعرات، يمكن للجهات الإعلامية فرض معايير صارمة للتحقق من المعلومات. كذلك، ينبغي تكثيف الحملات التوعوية التي تُعلم الأفراد كيفية التمييز بين المعلومات الموثوقة والمغلوطة، وتشجيعهم على استهلاك فكر غني بالقيم والمعرفة.

في الختام، الأكل الضار والفكر الضار وجهان لعملة واحدة، كلاهما يغري بالمتعة السريعة، لكنه يترك خلفه أضرارًا مستدامة. إن الوعي بخطورة الأطعمة غير الصحية قد ألهم أفرادًا كثيرين لتبني أنماط حياة صحية، وهو ما يجب أن يمتد إلى استهلاك الأفكار. فلنحرص على أن يكون غذاؤنا نقيًا يغذي أجسادنا، وفكرنا صافيًا يرتقي بعقولنا. ففي النهاية، الصحة الجسدية والفكرية هما أساس حياة كريمة ومجتمع متماسك. وخير ما نختم به المقال، قول الإمام زين العابدين : ”عجبت لمن يحتمي من الطعام لضرره، كيف لا يحتمي من الذنب لمعرّته“.