آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

المعلم العظيم.. يقود التغيير في طلابه

إهداء إلى معلمي الدكتور عبد الله آل عبد المحسن مع التحية

جعفر العيد

”الإنسان ككائن اجتماعي يتأثر باتجاهات الآخرين ومشاعرهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم“. - ألبرت باندورا.. نظرية التعلّم الاجتماعي.

بداية: أود أن أقول إن هذه الانطباعات كتبتها في حياة أستاذي ومعلمي، مؤرخة بتاريخها، لم أشأ أن أغيّر فيها، إلّا القليل مما هو ضروري، راجيًا من الله الرحمة والمغفرة له، والمواساة لأسرته، وزملائه ومحبيه.

في نهاية العام الدراسي 1440/1441 هـ ”2019 م“ فاجأني أستاذي ومعلمي وقدوتي الدكتور عبد الله آل عبد المحسن بزيارته لي في المدرسة؛ فخر الدين الرازي المتوسطة بتاروت، حيث كنت أعمل مرشدًا طلابيًا فيها.

لقد شاهدني، أعمل وأرشد وأجتمع مع الطلاب، وهو وإن لم يصرّح بذلك كان ينظر لي بعين الرضا والسعادة، فليس أسعد من أن يرى المعلم الثمار وقد أينعت.. وأن طلابه سائرون بجدية في حياتهم.

وقتها ”يا لسعادتي“ لا أستطيع وصف مدى فرحي وابتهاجي، وكأن مشرفًا من إدارة التعليم يزورني، ربما سعد الطلاب بقراءتهم الابتهاج في وجهي، ما كان مني إلّا أن أخليت مكاني، وطلبت منه التفضّل بالحديث مع الطلاب عن موضوع اللقاء، وهو مرحلة المراهقة ”أهميتها، خصائصها“ وكيفية التعامل معها.

بدأ معلمي الحديث مع الطلاب… أمّا أنا فسرحت بخيالي إلى تلك الأيام الجميلة التي قضيناها تحت رعاية وتوجيهات هذا المعلم.

يوم مولدي كمعلم رسم في ذلك الوقت، وليس يوم قُبلت معلّمًا في وزارة التعليم.. لقد تأخر تحقيق ذلك لسنوات، وحال بيني وبين تحقيق هذا الهدف مجموعة من العوائق ومنها وفاة والدي ”عليه الرحمة“ واضطراري لترك مقاعد الدراسة في ذلك الوقت.. لقد ترك هذا المعلم تأثيرًا وبصمة في حياتي.

مثل اليراعات الصغيرة like captured fireflies:

في الواقع لم يكن الدكتور عبد الله معلّمًا عاديًا منذ اليوم الأول، الذي وضع رجله في مدرستنا في ذلك الوقت؛ ”مدرسة تاروت المتوسطة“ في نهاية السبعينات ”بداية الثمانينات“.

بل كان رجل تغيير الصورة الكلاسيكية للمعلم، الذي يعطي حصته ودرسه، ليس له شأن في أحوال الطلاب، وفي نشاط الطلاب، وما يشغلون به أوقاتهم.

كان رجلًا متعدد المواهب، وممثلاً بارعًا؛ يجيد تصوير المواقف والأشياء، والقضايا، ويحبك الحكايات، ويرويها لنا بشكل جميل.

وكما يقول الروائي العالمي جون شتاينبك ”آمنت بأن المعلم العظيم فنان عظيم، وأن المعلمين الفنانين قليلون، بل قد يكون التعليم أعظم الفنون، لأن الحقل الذي يعمل فيه، هو عقل الروح الإنسانية“.

وفي قطعة غير مشهورة كتبها الروائي العالمي الشهير جون شتاينبك إلى مجلة ”CAT Journal 1955“ اتحاد المعلمين في كاليفورنيا ”في صفها“ معلمته: "كانت تأويلاتنا تمتد عبر العالم، هي أيقظتنا إلى نقاشات، نرفع فيها الكتب كما ترفع الرايات.

كل صباح نأتيها محملين بصدق جديد، ومعرفة جديدة، وأفكار جديدة نحملها في أكفنا بحذر، مثل يراعات صغيرة محبوسة. عندما رحلت خيّم علينا الحزن، لكن الضوء لم يخمد، لقد تركت توقيعها ”تأثيرها وبصمتها“ في عقولنا". استعنت بالذكاء الصناعي للحصول على هذا النص غير المشهور.

تلك الصفات تخص المعلمين البارعين، ولا أبالغ أبدًا إذا ما قلت إن ما ذكره شتاينبك ينطبق على معلمي الفاضل والعظيم في نفس الوقت.

ولو قدّر أن سِير لنا استبيانًا ”في ذلك الوقت“ يسألنا عن المعلم المحبوب لدينا لما عدوناه.

لكثرة ما كان مستحوذًا على عقولنا، وأحاسيسنا في ذلك الوقت.

بكل الأحوال لو سألت نفسي ما هي المميزات التي تحلّى بها هذا المعلم القائد، سيكون بالشكل التالي.

1/ التعليم كفن من الفنون لدى المعلم عبد الله آل عبد المحسن.

”التعليم هو في الأساس فن والمدرس يمثل أعلى مفهوم لهذا الفن عندما يحول دون تحوّل هذا الفن إلى روتين ممل؛ مثير للسأم“ - هوارد إي. أوزمون. صامويل إم. كرافر ”نقلًا عن“ إيريك جنسن".

لم نحتفظ بتفاصيل المادة الدراسية، وهذا أمر طبيعي مع طلاب متحفزين للعب، ومشغولين في أحوال أسرية اقتصادية واجتماعية متردية.

كان الأستاذ عبد الله يمثل لنا أول المعلمين المبدعين، خصوصًا عندما نتذكر أن الوصول إلى التعليم، كان يأتي في ذلك الوقت بالالتحاق بمعهد المعلمين بعد المرحلة الابتدائية، بينما درس الأستاذ عبد الله بكالوريوس اللغة العربية في العاصمة الرياض.

لا أدري ما الذي كان يدور في ذهنه في ذلك الوقت، لكن الذي بدا لنا واضحًا أنه عمل على التغيير في مستوى التفكير لدى مجموع ذلك الجيل، ولم نتأخر كطلاب في الاستجابة إليه ومساعدته.. كيف استطاع هذا المعلم أن يطوي عرى الزمن، ويفهم طريقة اللعبة التعلمية التعليمية باكرًا، ويمارس معنا التعلّم باللعب، النقاش الحر، استجلاب صور من الحياة المعاشة.. والذي يعتبر في هذه الأيام من استراتيجيات التعلّم الحديث.

كل ذلك كان يؤديه مبتعدًا عن الأساليب المنفّرة في التعليم ”كالنبذ، الضرب، السخرية والتعيير“.

2/ الجدية مع البساطة..

لم يكن المعلم عبد الله شخصية كسولة، بل إنه جاد في حياته، ويواصل تقدمه في مجالات متعددة، لكنه في شرحه للطلاب يحاول استخدام أمثلة بسيطة، نجد أنفسنا منجذبين، ومتفاعلين معها.

ناهيك عن ”هذا وذاك“ أنه لا يحمل القلق على وضعه المادي، وكذلك المنصب، بل إن جلّ همّه كان الطلاب، اليوم أقول إن مستواه الدراسي جعله مطمئنًا إلى حصوله على المناصب القيادية، وبالفعل رأينا الثقة من قبل المسؤولين التربويين تنهال عليه للمساعدة في أمور بعض مدارس المنطقة.

ومن علامات جديته، أنه لم يكتفِ بالبكالوريوس، وإنما أعقبها بالماجستير، والدكتوراه، ومن جديته أيضًا أنه يستغل وقت فراغه لترتيب التمثيليات الهادفة في المدرسة، وأتصوّر أن مجموعة التمثيل الطلابية هي التي كانت النواة لجماعة مسرح نادي الهدى بتاروت.

الصحيح أيضًا أن الأستاذ عبد الله لم يكن الشخصية الوحيدة في البلاد بهذا المستوى، يمكن أن نقول إنه جيل التغيير الأوسط في المجال التربوي والمدرسي، فبرزت شخصيات عديدة منها: السيد محمد الدعلوج، والأستاذ عبد الله آل محمد حسين، والمرحوم الدكتور علي الجنوبي، وآخرين قد لا تكون الذاكرة أسعفتني في تذكرهم، إلّا أنه ولكون الحديث مخصصًا عن المعلم عبد الله آل عبد المحسن، ركّزنا الحديث عن هذه الشخصية.

3/ الإيمان بالعمل الجماعي:

من العلامات الفارقة، وأسرار نجاح هذا المربي هو إيمانه بالعمل الجماعي، والعمل الجماعي يتطلب مواصفات معينة من المراعاة، وتوزيع الأدوار، وفسح المجال لإبداع الآخرين.

لقد فهم المعلم عبد المحسن اللعبة باكرًا، فليس مطلوبًا على المعلم توزيع الأحكام على سلوكيات الآخرين، بقدر ما هو مطلوب منه الاستماع إلى وجهات نظرهم.

هذا المربي كان يملك الصبر والبال الطويل للاستماع إلى وجهات نظر الطلاب، بحيث كانت المسرحية تبدأ بفكرة، لكنها سرعان ما تتمدّد وتتطور إلى أن تصبح لوحة فنية مطرزة بكل الآراء، والإسقاطات الجميلة، التي قد يضيفها هذا الطالب أو ذاك؛ وهذا واحد من أسرار نجاح هذا الرجل.

لقد واصل المربي عبد الله هذه السجية ”سجية العمل الجماعي“ حتى بعد تسنّمه مراكز عليا في إدارة التعليم، واعتمد على إنجاز المهمات، بتكاتف مجموع المعلمين، وفي بعض الأحيان الاعتماد على طاقات الطلاب اليافعين.

4/ الشجاعة في إبداء الرأي:

إن عدم استخدام العنف، والإيمان بالعمل الجماعي، لم يمنعا هذا القائد الفذّ من الشجاعة في إبداء رأيه في بعض الأمور والقضايا، التي كانت تواجه المعلمين والطلاب، إلّا أنه كان يبدي رأيه مع الحفاظ على الأدب، نستطيع أن نسميها الشجاعة الأدبية.

قد لا أكون قريبًا من الأستاذ في الوقت الذي تسلّم فيه إدارة مدرسة دار الحكمة، ومدرسة القديح الثانوية، واليمامة الثانوية.. ومدارس أخرى، لكن المعلمين الذين عملوا مع أبي فراس، يذكرون أنه يدافع عن كوادره التعليمية أمام بعض المشرفين إذا ما أوقعوا ظلمًا على أحد المعلمين، ولا أريد الاسترسال في الموضوع، لكن الأستاذ أصبح خبيرًا من الناحية التربوية يُضرب له ألف حساب في القرارات الإدارية.

5/ الحيوية.. وحب العمل:

من الصفات الجميلة عند المربي آل عبد المحسن، إضافة إلى كونه اجتماعيًا ويحب السفر وزيارة الأماكن التراثية وغيرها في العالم، وبناء العلاقات مع مختلف الشخصيات.. هو التحلّي بهذه الحيوية والنشاط، والمثابرة. لقد لاحظت منذ فترة أنه يركز كل فترة على القراءة في جانب من الجوانب الفكرية والثقافية، لكن الواضح أنه يميل إلى الآداب والفنون والمسرح والتفكير بأنواعه، وأدوات التأثير في الشخصية الإنسانية بأنواعها.

أرى في هذا المربي الفاضل أنه رجل يحب أن يسير دائمًا نحو التطور والنمو بدون استكانة، ناهيك عن أنه لا يتأخر في تشجيع الآخرين، ودعمهم معنويًا وماليًا ليواصلوا مشوارهم.

والحمد لله رب العالمين، لقد منّ الله عليه بأسرة فاضلة محبّة للعلم والتقدّم.. فمنها الأطباء البشريون، ومنها الإداريون، والمهندسون، ومنهم التربويون، الله يرعاهم ويحفظهم، ليواصلوا الطريق.

هذه النقاط وغيرها هي التي رسمت خطوطًا خضراء لي ولأمثالي من الأصدقاء الذين عاشوا تلك الحقبة، ولله الفضل أن أكرمنا بمربٍّ فاضل مثله، ساعدنا في تلمّس معالم الطريق.. الأمر الذي انعكس على تفكيرنا بطريقة إيجابية.. ولكي لا ننسى له هذا الفضل كتبت هذه السطور البسيطة في حقه، داعيًا له بالرحمة والمغفرة عند رب رحيم، غفور. وخلف الله على أولاده وبناته بالخلف الصالح، وأثابهم، وربط على قلوبهم.

شاكرين له جهوده الكبيرة في سبيل رفعة البلاد، وأبناء البلاد.. والله الموفق.