آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 5:43 م

فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ

المهندس أمير الصالح *

القرآن الكريم مُربٍّ لمن أراد أن يتأدب بآدابه ويأخذ بيد من اتبعه إلى مجموعة حِكَم عملية في حقول سلوكية متعددة، منها الإدارة النفسية الحكيمة بطريقة سلسة وجميلة؛ ولاسيما إدارة المواقف الحرجة وضبط ردود الفعل عند الإصابة بخيبة الأمل ممن أحسن الإنسان إليهم. كم وكم من الناس تذهب نفسه حسرات على من بذل جهده وماله ووقته وصحته وكدّه وسعيه، دون مَنٍّ أو أذًى، لكي يُعلي من شأنهم ويَلمّهم ويؤازرهم ويوفر لهم مستوى معيشي محترم بعد أن حصد الجحود والانقلاب والتهميش والأذى والتسقيط والإهمال وعدم مراعاة المشاعر.

حتما هكذا جحود سيحز في نفس المضحي وقد يجرحها بعمق لا يندمل؛ ولكن كتاب الله الكريم ملتفت لمثل هذه الأمور والمشاعر، ويذهب بعيدًا ليواسي أصحاب الجهود ويشد من عزائمهم في قوله تعالى:

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: الآية 8]

فيا عزيزي الأب «الأم» الوفي، الموظف/ة المخلص، الأخ «الأخت» الناصح، الكاتب الواعي، الخطيب القدوة، المربي الفاضل… إلخ.، قد تنهك نفسك بالبحث والاطلاع والقراءة والتنقيح والتمحيص والالتزام والوفاء والمبادرة والكتابة والتوجيه والدعوة للتقريب والتجميع ونبذ الخلافات، فيأتي أحدهم ويقول وبكل صلافة:

لم نرَ أي شيئًا ملموسًا!

كل الناس يسوون مثل ما سويت، ترى ما عندك شي زايد! ما سويت شيئًا يستحق الثناء!

كل اللي تقولونه كلام في كلام، والكلام لا يسوى قرشًا. كل هذا المقال أو ذاك الكتاب أو تلك المبادرة أو ذاك الجهد تم صُنع مثله سابقًا.

أنتم قوم تنصحون وتَعِظون، ولكن أنتم بعيدون عن الواقع، لا بل أبعد!

قد تتفق بسخاء جهدًا ومالًا ووقتًا وتدعو الجميع دون استثناء للخير، فتجد أحدهم سلوكه مصداقًا للمثل الشعبي «وجوه لحم وقلوب فحم»؛ لا بل يتعمد البعض إخفاء مناقب المحسنين من المبادر ويحذفهم من أي دعوة أو حفاوة أو حدث فيه تبريز أو مشاركة فاعلة!!

هَوِّن على نفسك

كلام الله العلي القدير في الآية الكريمة أعلاه يعني أن كل ما حدث ويحدث هو بعين الله؛ فيكون لسان حال المؤمن كما هو لسان سيد شباب أهل الجنة، الحسين بن علي : ”هون ما نزل بي بأنه بعين الله“.

اعمل ما يجب واترك ما يكون.

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: الآية 56]

هذه الآية تحفز الإنسان على غرس البذرة حيثما كان بالقدر الممكن والمتاح، ويترك بلوغ الثمرة بيد الله جل جلاله. وقيل قديمًا: ”اعمل ما يجب واترك ما يكون“. وهذا من كمال العمل ونقاء النية وطيب الأصل وجميل العمل.

ولله در بيت آل محمد ﷺ حيث نزلت فيهم الآية القرآنية الكريمة؛ فلا سنابات ولا تيك توك ولا وكالات أنباء ولا تصوير ولا فلاشات ولا جمهور، إلا توثيق شهادة الله لهم بأنهم خير الخلق قولًا وعملًا، فجعل سلوكهم قرآنًا يُتلى ليل نهار:

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: الآية 9]

همسة:

لمن يعتقدون أنهم أناس صالحون بالأعمال، عندما ترى الآخرين يبذلون ما في وسعهم لصنع الأفضل بالكلمة والأفعال البناءة، فلا تحبطهم أو تُسَفِّه من جهودهم إن كنت من الصالحين. وإن كنت صادقًا في لمّ الشمل فلا تنخر في جسم الأسرة / المجتمع تحت مظلات مختلفة حتى لو كانت بمسمى لقاء أسري أو عمل تطوعي أو مسابقة خيرية أو قروب تربوي أو معايدة أو إفطار رمضاني أو… أو… إلخ. عبر التحيز أو المفاضلة أو المناكفة أو التهميش المتعمد أو الغمز أو اللمز أو السخرية.

الصادقون يُعرفون بسيماء أعمالهم وصفاء نياتهم وطهارة سلوكهم. أما المناكفون فيُعرفون من لحن كلامهم وكثرة ريائهم وتعدد أقنعتهم وكثرة شغفهم بالبروز الباطل وتعدد مواقف استفزازاتهم للآخرين وتنامي استغلالهم للآخرين.

وقد قال تعالى في حق أولئك:

﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: الآية 167]