آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

الشّك الأخير

هناء العوامي

تقول سارة:

أنا أسكن بالقرب من البحر، نسميه بحراً.. وما هو إلا بحيرة كبيرة، أكبر بحيرات ما يعرف بحزام يوروأفريقيا... حيث أن هذه البحيرات مع شكل اليابسة تبدو من الجو كحزام أنيق حول خصر امرأة..

بجانب بيتي يقع بيت جاري المحامي مازن وزوجته عبير، وابنتهما الصغيرة منال.. منال طفلة جميلة في العاشرة، لكن قامتها تماثل طفلة في الثامنة، عادي! بعض الأطفال هكذا، المهم أنها ذكية ومتفوقة في دراستها، وأحيانا تشعر حين تسمعها تتكلم وكأنها تفكر مثل الكبار! جيران ودودون هم، وأنا أعرفهم منذ زمن طويل.. عبير طباخة ماهرة، وطبخها أفضل من طبخ أي روبوت طبخ مهما كان غالي الثمن.

جاءت صديقاتي للاجتماع الأسبوعي، باستثناء روزا التي اعتذرت لمرض ابنتها... بينما أحضرت تسنيم معها أختها نازانين.

كان الجو شديد الحرارة، أو كما وصفته راحيل: ”زفت“.. وبالتالي فقد لجأنا إلى منزلي، منزلي الذي يقع فوق الأرض وله شرفة ونوافذ، منزل تشعر أن حجارته نفسها تَشعُر بالراحة والانتماء إلى هذا الكوكب، تشعر صديقاتي براحة نفسية لدى تواجدهن فيه، كما تشعر أنت في بيت جدتك الكبرى.

لو كانت روزا هنا لوصفته بأنه أشبه بمتحف. فهو مبني بالطرق القديمة وليس برغوة البناء التي تتجمد ما أن تتعرض للهواء.

كما تعلم أنا الوحيدة من بينهن التي لم تغادر كوكب الأرض قط. والتي ولدَت ونشأت على هذا الكوكب.

هذه لم تكن صدفة.

صديقاتي يعرفن أنني متخصصة في البيولوجيا الجزيئية، لكن ما لا يعرفنه هو أنهن جميعا عينات في أبحاثي.

أنا أشك أن خللاً معيناً حدث في جينات سلالات البشر التي ولدَت ونشَأت لعدة أجيال خارج كوكب الأرض، وقد بقيتُ أجمعُ الملاحظات خلال لقاءاتي واجتماعاتي معهن، بالنسبة لي هن لسن نساء طبيعيات، لقد وُلِدنَ ونشأنَ في بيئة صناعية بالكامل، ومحاولات مستميتة لمحاكاة النظام البيئي على الأرض، لكن النظام البيئي الأرضي تكون خلال مئات السنين وليس مجرد بضعة أجيال.. لذا فهن كائنات هشة، تصاب بالذعر أو ضيق التنفس بالإضافة إلى دستة من الأعراض الأخرى لأتفه الأسباب، هذه الكائنات الفضائية شبه المُصَنّعة لن تَصمُدَ طويلا ومصيرها إلى الاندثار قريبا جدا...

الأرضيون يفهمون بعضهم، ونحن لا نعلِن أبحاثنا كي لا نتسبب في حالة ذعر عام. لكن حتى غير العلماء المتخصصين يدركون أن العائدين من الفضاء بهم خطب ما.. وأنهم لن يصمدوا طويلا.

نحن نعتبرهم أشباه بشر.. إذ أن التقنية لن تقترب أبداً حتى من أن تكون الحضن الآمن والملاذ لنوعنا من كوكبنا الأم.

لديهم قصور في بعض الحواس.. خلل أو ضعف في أداء بعض وظائف الأعضاء، مشاكل مناعية، والقائمة تطول.

معدلات أعمارهم أقصر من الأرضيين وهي تنقص باستمرار.

هن قد لا يلاحظن حالات الخلل والضعف التي قد يعانين منها كونها حالات مزمنة مستمرة منذ الولادة، لكن أنا ألاحظ وأقارن وأقيِّم.

لديّ متطوعين ومتطوعات من أجل البحث نفسه في مركز الأبحاث حيث أعمل، وأكتب دراسة حالة رسمية عن كل منهم، لكنني أعتقد أن النتائج الأصحّ سوف أحصل عليها عند ملاحظة نماذج بحث لا تعرف أنها كذلك.

الليلة سأقدم لهن على العشاء أصنافاً لم تكن متوفرة في كواكبهن، ثم سأراقب أي ردّ فعل تحسسي، ماذا؟ ليس لأحد أن يوجه لي اتهاما ما فقط لأنني قدمت أطباقا محلية لضيوفي!

وكأنما كُنَّ يَخشينَ الأمر نفسَه فقد تناولنهُ بحذر وبكمياتٍ بسيطة في البداية، لكن الليلة مرت على خير وطعامي راق لهن، مع الكثير جداً من المزاح والضحك حول أسماء المأكولات ومذاقها ومقارنتها مع ما اعتدن عليه..

هكذا ودعتهن مع شيء من خيبة الأمل بينما كان الروبوت المنزلي ينظف المكان.

وكان الجو قد أصبح ألطف فخرجت لأتمشى قليلا بالقرب من البحر.

كنت أفكر...

لن يصمدوا.. الجاذبية، أنماط الغذاء، تركيب الهواء، والكثير غير ذلك.. أجسامهم تحاول التكيف، وتَظهر عليها الأمراض نتيجة ذلك العبء.. عبء التكيف.

- ”هل كنتِ تفكرين بصعوبة تكيف البشر العائدين من الفضاء مع البيئة الأرضية؟“.

كان ذلك هو صوت جاري مازن..

لم أشعر به وهو يسير بالجوار، نظرت إليه بدهشة وشيء من الرعب، كيف قرأ أفكاري؟

رأيت عينيه وقد اتسعتا من الدهشة هو الآخر، وكأنه لم يصدق بدوره أنه قد قرأ أفكاري.

- ”علي أن أقول، لو سمحتِ لي، أنه ليس أمرا أخلاقياً تماماً أن تعاملي صديقاتك وكأنهن فئران تجارب“.

- ”ك.. كيف.. كيف؟“

كنت في حال يرثى لها من الصدمة وقلة الحيلة، هل قرأ أفكاري على وجهي؟ هل كانت واضحة إلى هذا الحد؟ لكنه لم يكن ينظر إلى وجهي حتى.... لقد جاءني صوته من الخلف.. كيف؟؟

- ”البشر عامة هم جنس هَشّ.. إن أردتِ رأيي فنحن الذين سوف نرث الأرض“.

- ”مازن، كيف خمنت ما كنت أفكر به؟ ههههههه لا عجب في أنك محام ناجح إلى هذا الحد“.

ابتسم ولم يعلق..

تركني أفكر فيما قُلتُه وما قَاله.

نظرنا إلى بعضنا في صمت.

الصمت الذي يسبق العاصفة.

لا يمكن أن يكون ذلك مجرد تخمين، لقد تكلم بأفكاري بدقة، كما أنه لا يعرف أصلا بأن صديقاتي فضائيات!

هل اخترعوا أخيراً تِقنية تسمح بقراءة أفكار الناس؟ عبست مفكرة، هذا كان سيحدِث ضجة.. لا.. كان سيحدث عاصفة حول حقوق الإنسان والخصوصية بل وسِريّة المعلومات، ثم إنه يستحيل أن يعلم هو قبل تسنيم بظهور تقنية مماثلة، ثم... دقيقة.. ما الذي قاله قبل قليل؟ سوف نرث الأرض؟ ما الذي يتكلم عنه هذا الرجل؟

خطر لها أنه حدَث منذ دهرٍ طويلٍ جداً، تاريخ ما قبلَ التاريخ، قبل الجفاف الكبير وموجات الحرّ التي قتلت نصف البشر وقبل هجرة أفواج بشرية إلى كواكب بعيدة، كان ثمة شعب معين يدعي أنه الوريث الشرعي لأرض شعب آخر لأن آلِهَته قد وَعدتهُ بِها.. ما جعله مَحَطَّ سُخرية، هيَ لا تعرِفُ الكثيرَ عن ذلكَ التاريخِ البعيد الذي لم يعد حاضراً جدا في الوعي الجمعي لزمنِها لكن تلك القصة بالذات كانت مستفزة.

- ”نعم أنتِ على حق، مستفزة جدا“.

أجفلَت، ملامحه كانت تُنبِؤها بأنه عرف كل كلمة فكرت بها...

- ”أستاذ مازن.. أبو منال... هل لديك موضوع مهم ما ترغب بأن تحدثني فيه؟“ قلت له عابسة.

ابتسَم بصمت، وشعرت أن ثمة شيء خطأ في وجهه وهيئته، لكنني لم أتبين ما هي..

- ”ماذا تقصد بأننا سنرِث الأرض؟ هل أنت ترفض المهاجرين من المريخ وتيتان؟“.. قلتُ غير مقتنعة.

- ”أنت غير مقتنعة“.

قال فأجفلت.

- ”أنا أقصد الأرض... بعد أن يفنى ويندثر الجنس البشري لأنه أضعف من أن يتحمل البقاء أكثر من قرون قليلة تالية.. أنت تعرفين..“.

تجاهلت كلامه..

- ”لم أعد أشعر بالراحة لهذا الحديث، لو كانت لديك مشكلة ما معي فأنا أفضل أن ترسل زوجتك لتتحدث معي، امرأة لامرأة“ قلت بضيق وهممت بمتابعة طريقي.

هب نسيم مالح من جهة البحر فخفف توتري قليلا.

- ”إنها ليست امرأة“.

نعم؟ الآن يبدو أنني إما أنا أو هو تحت تأثير مخدر ما.

- ”أفصِح“ قلت له بتحدٍ وأنا أنظر في عينيه.

- ”ذكاء صناعي“.

- ”ذكاء صناعي؟“.

- ”نعم، ذكاء صناعي“.

- ”تقصد مثلاً أنك روبوت ولست إنسانا؟... مثلاً؟“.

لم يرد جاري، بقي ينظر إلي بصمت، وبوجه جامد ذكرني بجو أفلام الرعب، هل سيقتلني الآن؟ شعرت بأن وجهه مجرد قناع.

هل يقول الحقيقة؟ تسنيم تعرف أكثر أنواع الربوتات تعقيدا وقد رأته عدة مرات وتكلمت مع زوجته وابنته، ولا يبدو أنها شكت لحظة في بشريتهم.

- ”لديكَ هوية بشرية، عائلتك مسجلة في الإحصاءات الوطنية ليوروأفريقيا الشرقية كمواطنين“.

- ”ألا تلاحظين أن منال لا تكبر؟“

- ”اسمع، فلتكن كما تقول.. أو فلتكن واهما هاربا من مستشفى الأمراض العقلية، فلتكن من الجن أو من سكان كوكب آخر... هذا لا يعنيني! فهمت؟“.

- ”حسبتُ أن صديقاتِكِ جَميعاً من سكان كوكب آخر“.

- ”يوووه“.

- ”الشركة التي صنعتنا شعرَت بأن الأمور تخرج عن السيطرة فقررت بالتالي تدمير جميع العينات، كان واجباً علينا التخفي من أجل البقاء“.

- ”ومنذ متى تهتم الروبوتات بالبقاء؟ الجينات هي التي تريد البقاء، وليس للروبوت جينات“ قلت وأنا أبتسم بسخرية.

- ”حسنا لنقل إذن أنهم فشِلوا في تدمير جميع العينات وحسب، وها نحن ذا هنا“.

- ”ليكن، ما شأني أنا؟ لِمَ تخبرني بذلك؟“.

- "لدينا اهتمام بالعينات التي جمعتِها من الكوكبين الآخرين".

عينات؟ صديقاتي؟

- ”بالمناسبة هل تعرفين أن منال هي أكبرنا سناً؟“.

- ”هل تعرف أن مُزاحك سَمِج للغاية؟ الله يعين عبير عليك“.

- ”ههههههههه، حسناً لقد كنت بالفعل أمزح معكِ، رأيتك متضايقة“.

قال ذلكَ ومضى.

هل يفترض أنه غادر مشياً على قدميه؟

لقد رأيتهُ يمشي لكنه ابتعد بسرعة غير طبيعية، ثمة شيء خطأ.

لم أعد أعرف ما الذي يُفترض بي أن أصدقه! وحين سَلّمَت عليَّ جَارتي في صباح اليومِ التالي من شرفةِ مَنزِلها كالمُعتاد.... لم أردّ.