من واقع التّجارب المؤلمة.. «شيء من حياتنا»
كانت بانتظاري عندما وصلت ُ إلى منزلها،
قابلتني بلطف وحفاوة كعادتها، تقفز السعادة من عينيها، ابتسامتها مُشرقة، أما رائحة منزلها تذكرني بأجمل الروائح الفندقيّة، أجلستني في ركنٍ جميل بمنزلها؛ يطلّ على حديقتها الصغيرة.
صديقتي «إلهام» تعشقُ الجمال والتفاؤل والبهجة في الحياة، تقفل صفحة الحزن سريعا لامتلاكها ناصية التفاؤل بغدٍ أفضل من سابقيه، تُجسّد قول الشاعر:
إني إذا عبَس الزمانُ بساحتي
أضحكتهُ.. واخترتُ أن أتفائلَ
ولقد بلغتُ من التفاؤل أوجهٌ
و قلائلٌ من يفعلون قلائلُ
حتى تفاعيل البحور قرأتها
متفائلٌ متفائلٌ متفائلٌ.
وثمّة أمر مهم يُضاف لها بل إنّها أمور عديدة منها: المنطق الصادق، والموضوعيّة الهادفة، واللباقة في الحديث، ولها قدرة مُدهشة على التّعامل مع المواقف المختلفة.
جلستُ معها وأنا أنتظر أن تُضيف لي الشيء الكثير من معين عذب أحاديثها
لكنني شعرتُ بلمحة حزن خاطفة على محياها وعندما سألتها قالت بهدوء:
كان الجميع ينصحني بإنهاء عقدها وتسفيرها إلى موطنها، غلبتني عاطفة الرحمة وقلت في نفسي:
لقد قطعتْ مسافةً طويلة كي تعمل فلماذا أحرمها فرصة العمل هي كغيرها من العاملات جاءت لطلب الرزق؟
كتب الله تعالى على نفسه الرحمة كما جاء ذلك في كتابه الكريم، وقد امتزجت الرحمة بفطرتنا السويّة، وتجلّت كقيمة إنسانيّة بالتفاعل المُتبادل بيننا وبين الآخرين.
قلتُ لها:
نعم يا عزيزتي هي إنسانيتنا تدفعنا إلى التّألّم بصمت والتغاضي والتعايش بسلام.
هاتِ ما عندك فأنا على يقين بأّن ديدنك العطاء والكرم مع العاملات.
أخذت تتحدّث بألم وكنتُ كمن يسمع صرخات قلبها غير المسموعة ودموع عينيها غير المنظورة؛ قالت بحزن:
الرحمة في الله حياة لذلك اخترتُ بقاءها، كنتُ أجلس من النوم قبلها، وأعلل تأخير نهوضها مبكرا للتعب من العمل على الرغم من أنها تخلد للنوم عند مغيب الشمس، لاحظت كثرة عطاسها أثناء عملها فأزعجني ذلك خاصة أثناء مزاولتها للعمل في المطبخ، ذهبت بها للمشفى وبعد الفحوصات وجدت أنّها مُصابة بالجيوب الأنفية وتعاني آلامًا مُزمنة في معدتها، أضف إلى ذلك إصابتها بمرض السكري من النوع الأول.
كانت سيئة الطباع معي على الرغم من
عنايتي بها وتجشمي عناء الذهاب للصيدلية كلّ شهر لإحضار أدويتها الخاصّة بها.
عاملة منزليّة ولكن عملها مؤجل باستمرار ويظهر في ذلك العمل الكسل والخمول والتعب المستمر والاستئذان بين الحين والآخر للخلود للنوم، وإذا أخلصتْ يومًا أو بعض اليوم للعمل فهذا لأنها تريد أن تقترض مني المال؛ وناهيك عن تلك الحجج الواهية التي تقدّمها فقد ماتت أمها وأختها وعائلتها كلها في عام واحد!!
تذكرتُ قول نبي الرحمة الإنسان صلّى الله عليه وآله وسلم في شأن معاملة الخدم:
«إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم»
تحدثتُ قليلًا مع نفسي قلتُ لها: هذا الحديث الشريف قمتُ بشرحه في منهج القراءة لطالبات المرحلة المتوسطة، أتذكره جيدًا، فشعرتُ بواجب العمل به فقد ورد في الأثر:
«مثل الذي يعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يُضيء للناس ويحرق نفسه»
استمرّتْ معاملتها بالحسنى من جميع أفراد الأسرة، بالمقابل ظهرت السرقات بشكل متكرر وواضح جدا.
وبما أنها كانت ترسل جميع أموالها لذويها خارج البلاد فمن أين لك هذا؟
أخذت تتلف الأشياء الثمينة لانشغال فكرها بهاتفها المحمول، أرهقت ميزانية المنزل، لم تعد تنجز مهامها بالشكل المطلوب لأنها تسهر في الليل مع رفقتها في الوقت الذي كنت أعتقد أنّها نائمة، قد لا تتوقعين حجم خسارتنا التي سببتها لنا فالضرر الذي أحدثته أكثر من نفعها.
جلستْ عامًا واحدًا تُعيث الفساد والخراب بالمنزل، إنجازها لا يُذكر، وعملها يخالطه الغش ويتخلله الإهمال. إلى أن جاء وقت رحيلها بعد عام مضني من التّعب النّفسي معها.
لقد أنجزت الكثير لنفسها، فصرفت علاجات دوائية كثيرة لها، واعتبرت منزلي «سوبر ماركت» فأخذت ما استطاعت حمله ووضعته في حقيبتها.
لقد تركتُ بضاعتها لها لكنني أردتُ فقط الاطمئنان على حرمة منزلي فأحضرت من «يُفتْش» هواتفها المحمولة لقد رأيت والعياذ بالله تعالى الكثير من المقاطع الإباحية التي كانت تشاهدها في منزلي، وكم آلمتني تلك الرذائل التي كان يُدار محرك البحث من أجلها في وسط منزلي! وكيف يرون أهل السماء منزلي بهذه الرذائل، بعدما كان نور القرآن علامته الفارقة؟
إنّ منزلي يا صديقتي لا يعرف الحرام، وأهله في الذروة من العفاف وتقوى الله تعالى وهي خير شاهد فقد كانتْ تسمع صوت القرآن يدوي صباحًا ومساءً بين جدرانه.
ولن أطيل عليكِ الحديث بأشياء أخرى تُخدش الصفاء النفسي وأحاديثنا الجميلة.
ودّعتُها بسلام وبعد سفرها شاهدتُ حالتها «الواتسبيّة» تقول فيها:
هم يصلون لربهم ويقرؤون قرآنهم ولكنهم لا يتعاملون بإنسانيّة، قلوبهم ليست بقلوب رحيمة.
طويتُ صفحتها، وحمدت الله تعالى على رحيلها، أنا الآن أرى منزلي نظيفا له رائحة عطرة، منزلٌ نظيف بغير عاملة ترتكب المحرمات فتضيع بركة الحياة منه.
فكرّتُ مليا وتوصلتُ في قرارة نفسي أن ذلك الغبار الذي يعلو قطع الأثاث في منزلي أبهظ ثمنا من أن تمسحه تلك الأيدي الآثمة.