انقطاع الوتر… وابتداء الهواء
”من أساءَ إليك فقد فكَّ وثاقك… لأنّ الإحسانَ قيد.“ — جلال الدين الرومي
كل بداية تختبئ في قطيعة، وكل حرية تولد من كسرٍ ما. فما من شمس أشرقت إلا بعد أن استكمل الليل عتمته، وما من روح وجدت نفسها إلا حين انقطع عنها خيطٌ كان يقيّدها باسم الوفاء أو بظلّ الحاجة.
كان يمشي في شارعٍ خريفي تغشاه الأوراق المتساقطة ببطء، كأنها حروف كتاب قديم يعيد كتابة نفسه على الأرض. بدا له أن ما يسقط لا يفنى، بل يتحرّر من شكلٍ ضاق به، فيرتد إلى أصله. هناك، بين وقع الخطوات وصوت الورق اليابس، أدرك أن الخسارات ليست بالضرورة نقصًا في الوجود، بل قد تكون انفتاحًا على فضاء أرحب.
المسيء يظن أنه حين يخذلك أو يجرحك يملك زمام روحك، بينما يكون، من حيث لا يشعر، قد حرّرك من آخر خيطٍ كان يشدّك إلى علاقة فقدت معناها. فالإساءة ليست دائمًا قيدًا، بل قد تكون بابًا يُفتح على هواء لم تتذوقه من قبل. وحين ينقطع الوتر، يتسع فضاء الصوت، وتنكشف الحرية كأخفّ وأثمن ما يُمنح للإنسان.
الإحسان، على جماله، وتر حساس، يهتز طويلًا حتى يوشك أن ينكسر. فإذا انقطع، فلا يعني بالضرورة خيانة، بل يكشف عن هشاشة العلاقة التي حملته أكثر مما يفضحك. والرومي يذكّرنا: لا ترثِ الحبل إذا انقطع، فالزمن قد خلّصك من قفص كنتَ تحسبه مأوى.
من يضربك بالحجارة قد تمنحه زهرة، لكن الزهرة تذبل، فيما يبقى الحجر ثقيلاً في يده. ليست القضية في ردّ الإساءة، بل في الوعي بأن كل خذلانٍ هو إعفاءٌ من استنزافٍ طويل. أن تفقد قيدًا، معناه أن تستعيد وزنك الحقيقي، وأن تدرك أن الركض خلف من أدار ظهره لا يزيدك إلا انكسارًا.
الريح لا تهب لتقتلعك، بل لتسقط ما ذبل فيك، وتتيح لما هو حي أن ينبت من جديد. والإساءة ليست نهاية، بل تقشيرٌ قاسٍ يكشف ما لم يُجرَّب في داخلك من حياة. حتى الخيانة، مهما بدت جارحة، ليست سوى أداة كونية تعريك من الوهم وتردّك إلى حقيقتك الأولى.
في نهاية الطريق، لا باب لتغلقه ولا وجه لتودّعه. ثمة فضاء يتسع، وظلال قديمة تتلاشى في ضوءٍ جديد. الفقد الحقيقي ليس أن يرحل الآخرون، بل أن تبقى أنت معلّقًا بهم. واليوم… لم تعد معلَّقًا.
أنت ورقة نضجت حتى صرت ضوءًا،
تسافر في الهواء كأنك لحنٌ انفلت من قيدٍ قديم.