التخطيط
في مثل هذا الوقت من كل عام، تُستكمل ملامح الميزانية العامة، وتتهيأ لتخرج في صورة خطط تشغيلية تُوزّع على المؤسسات، فتتحول لاحقًا إلى مشاريع وخدمات تمس حياة الناس. غير أنني، بعد خمسة عشر عامًا من العمل في التخطيط وصياغة الميزانيات والقدرة على تحليل مكامن الخلل عند مقارنة البيانات، أدركت أن الميزانية ليست الغاية، بل هي وجه ظاهر لشيء أعمق ألا وهو التخطيط.
لقد رأيت عن قرب كيف أن غياب التخطيط لا يعني فقط ضياع البوصلة، بل هو خروج صريح من مسار التنمية. فمن لا يخطط، لا يكتفي بأن يهيئ لنفسه الفشل، بل يترك مصير مؤسسته عرضة للاجتهادات المرتجلة وهدر الموارد. لقد تعاملت مع مواقف كان فيها التخطيط هو الفاصل بين الفوضى والانضباط، وبين استنزاف الطاقات وتعظيم الأثر.
ومن خلال خبرتي، أدركت أن التخطيط منظومة متكاملة لا تستقيم إذا أُخذ جزء وأُهمل آخر. فهناك تخطيط استراتيجي يرسم الأفق البعيد ويصوغ الرؤية التي تحملنا نحو المستقبل. وهناك التخطيط التكتيكي، حيث تُترجم الرؤية إلى مسؤوليات وأهداف قابلة للقياس، كجسر يصل بين ما نحلم به وما نستطيع إنجازه. ثم يأتي التخطيط التشغيلي، حيث نغوص في التفاصيل اليومية، في الموازنات والجداول الزمنية، وهنا يتضح الفارق بين مؤسسة تُتقن إدارة مواردها، وأخرى تستهلكها بلا أثر. وأخيرًا، التخطيط للطوارئ، الذي طالما أثبت لي أنه صمام الأمان، لأنه يمدنا بخطة بديلة حين يختل كل شيء من حولنا.
التخطيط، كما خبرته على امتداد سنوات عملي، ليس شعارات تُرفع في الاجتماعات ولا أوراق تُصاغ لتُحفظ في الملفات. إنه أداة بقاء ونمو في آن واحد. بات التخطيط هو العدسة التي تضبط المصاريف وتحافظ على الموارد من الضياع والتشتت، وهو الميزان الذي يضمن أن كل ريال يُنفق يتحول إلى قيمة إضافية وأثر ملموس في نمو المؤسسات وعلى حياة الناس بشكل عام.
ونحن نعيش في هذا العالم الذي تتزايد فيهِ المخاطر من تقلبات الأسواق العالمية إلى الضغوطات الجيوسياسية التي تحيط بالمنطقة، أصبح التخطيط للطوارئ شرطًا أساسيًا لحماية المكتسبات وضمان الاستمرارية.
لكن، وبعد كل هذه السنوات من العمل، أستطيع القول بثقة إن التحدي الأكبر لا يكمن في صياغة الخطط على الورق، بل في ترجمتها إلى واقع. المواطن لا يقيس نجاحنا بعدد صفحات الميزانية التي عملنا أشهرا عديدة لإخراجها إلى الوجود، أو على جمال العبارات التي خطت في سردية الخطة التشغيلية، بل بما يلمسه في جودة حياته، في فرصة عمل يبحث عنها، في خدمة أكثر كفاءة، في طريق آمن أو مستشفى أكثر تجهيزًا. ولهذا أعتبر أن كل خطة هي عهد وطني قبل أن تكون التزامًا إداريًا، والإخلال بها لا يعني سوى هدر لموارد هذا البلد الغالي على قلوبنا جميعا وضياع الفرص.
نحن اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة مستقبل يليق بنا وبأجيالنا القادمة. التخطيط، إذا أُحسن توجيهه بعقلانية وشفافية وبُعد نظر، يتحول من وثائق إلى إنجازات، ومن أفكار إلى واقع أفضل يلمسه الناس في حياتهم اليومية. أما إذا أُهمل، فلن يكون سوى ”قائمة أمنيات“ تتبدد سريعًا في أول عاصفة.