آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 5:43 م

ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا

ياسر بوصالح

من أبلغ ما قيل في العصر العباسي بيتٌ للشاعر أبي دُلامة، يجمع بين الحكمة الواقعية واللمسة الساخرة:

ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا
وأقبحَ الكفرَ والإفلاسَ بالرجلِ

بيتٌ يختصر فلسفة التوازن بين الروح والمادة، بين القيم والمعاش، بين الآخرة والدنيا فليس من الفضيلة أن يُهمل الإنسان دنياه باسم الدين، ولا من الحكمة أن يُعرض عن الدين طلبًا للدنيا، بل الكمال في الجمع، لا في المفاضلة.

إن صلاح الدين - أي الاستقامة والخلق والتقوى - حين يقترن بحسن الحال في الدنيا، من غنى وراحة وكرامة، يُنتج إنسانًا متزنًا، نافعًا لنفسه ولغيره. فالدين لا يُنافي الغنى، بل يُهذّبه ويمنحه بُعدًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا. وفي المقابل، أشدّ ما يُقبح في الإنسان أن يجتمع فيه الكفر والفقر، فيُحرم من القيم الروحية ومن الكرامة المادية، فلا يُنتظر منه خير في الدنيا ولا في الآخرة.

وهذا المعنى منسجم مع قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [1]  فهو يرسّخ مبدأ التوازن، ويُذكّر بأن السعي في الدنيا لا يتناقض مع طلب الآخرة، بل يُكملها ويُعززها.

لكن ما يُثير العتب، أن بعض خطباء المنبر يركّزون في سيرة أمير المؤمنين على جانب الزهد، فيُعرضون روايات تجري في فلك واحد، من قبيل:

• «والله، لقد رقعتُ مدرعتي هذه حتى استحييتُ من راقعها» [2] 

• «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه» [3] 

• «يا صفراء ويا بيضاء، غُرّي غيري» [4] 

فتتكوّن في ذهن المستمع صورة سلبية عن السعي في الدنيا، وكأن طلب الرزق مذموم في ذاته، لا يليق بالمؤمن أن يسعى إليه. بل ربما يتبلّد الحس إلى أن يكون مصداقًا لما قاله ابن هندو:

جرى قلمُ القضاءِ بما يكونُ
فسيّانَ التحرّكُ والسكونُ

جنونٌ منك أن تسعى لرزقٍ
ويُرزقُ في غشاوتِه الجنينُ

لكن هذه الكلمات التي قالها أمير المؤمنين جاءت في سياق خلافته، لا في سياق التنظير العام لما ينبغي أن يكون عليه الفرد المسلم [5] ، ويؤكّد ذلك قوله «إن الله جعلني إمامًا لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري، ولا يطغى الغني بغناه» [6] 

لذا فهو زهدٌ اختياريٌّ تربويٌّ، لا دعوة إلى ترك الدنيا، بل إلى تهذيب العلاقة بها، وتقديم القدوة لمن لا يملك، دون أن يُحرّم السعي أو يُجرّم الغنى.

إن الدين في جوهره لا يُخاصم الدنيا، بل يُهذّبها، ويجعل منها وسيلة للارتقاء، لا غاية للانغماس. والكمال أن يكون الإنسان غنيًّا في روحه، كريمًا في دنياه.

وبما أنني بدأت بالعتب على بعض خطباء المنبر، فلا بد من تسجيل إشادة بمحاضرةٍ أثّرت فيّ كثيرًا، وهي لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان: ”اكتساب الثروة من الإيمان“ [7] ، فقد ركّز فيها سماحته على أهمية التجارة وطلب الرزق، وأكّد أن المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف، في دعوة واضحة إلى الجمع بين الإيمان والفاعلية الاقتصادية ولمن أراد التوسّع في هذا الطرح، يمكنه الرجوع إلى كتاب سماحته الذي بعنوان ”ثقافة التدبير الاقتصادي“، حيث يعمّق فيه رؤيته حول العلاقة بين الدين والاقتصاد. [8] .

والحمد لله، بلادنا بلد خير، وفيها الكثير من الفرص التجارية التي ينبغي استغلالها، سواء لمن يملك رأس مال أو حتى لمن لا يملك، عبر جهات داعمة مثل بنك التنمية الاجتماعية [9]  والهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة «منشآت» [10] .

بل أكثر من ذلك، يمكن للشباب اليوم تفعيل مكاسب هائلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولعل الصورة النمطية المتكوّنة عن مكاسب هذه الوسائل تنحصر فقط في الإعلانات للمطاعم وصالونات التجميل، بينما الحقيقة أن المحتوى الجيد، الذي يحترم الشرع والقيم والقانون، يحمل فرصًا كبيرة للربح والتأثير.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، قناة الأستاذ فيصل الحمراني بعنوان سوالف طريق [11] ، يعرض فيها قصصًا بأسلوب مشوّق وبديع، ويستخلص في نهايتها العبر، ويقدّمها للمستمعين بشكل جذاب. حتى أن بعض التعليقات على القناة تشير إلى أن متابعيه تركوا الاستماع إلى الغناء، وباتوا يقطعون الطرق الطويلة وهم يستمعون إلى قصصه دون ملل.

وقد بلغ عدد مشاهدات قناته قرابة ملياري مشاهدة، وعدد المشتركين فيها نحو ثلاثة ملايين وسبعمئة ألف مشترك وبحسب تقديرات أدوات التحليل الرقمي، فإن أرباحه السنوية تتراوح بين مليونين إلى ثلاثة ملايين دولار كأبسط تقدير، وهو مثال حيّ على أن المحتوى الهادف يمكن أن يجمع بين التأثير والربح، بين الرسالة والعائد.

لذلك نقول للأستاذ أبي طلال الحمراني ”صحتين على ئلبك“ كما يقول أهل الشام وإلى مزيد من الخير والتألق بإذن الله، والحق يُقال: الرجل يدعم الكثير من المشاريع الخيرية وفق ما تبيّن لي من متابعتي لسيرته [12] ، ويُثبت أن الجمع بين الدين والدنيا ليس فقط ممكنًا، بل مثمرًا ومُلهمًا.

فيا شباب، طبقوا وصية عمّكم أبي دُلامة: ما أحسنَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا.

[1]  سورة القصص آية 77

[2]  شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 9 - الصفحة 233

[3]  نهج البلاغة - خطب الإمام علي - ج 3 - الصفحة 70

[4]  شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج 18 - الصفحة 224

[5]  بالمناسبة الإمام علي كان يمتلك عيني أبي نيزر والبغيبغة وكان أوقفها في حياته، وهي ما قدرت قيمتها بعد وفاته بمئتين ألف دينار ذهب، أي ما يعادل بلغة هذه الأيام 850 كيلوغرام من الذهب

[6]  شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 7 - الصفحة 43

[7]  https://www.youtube.com/watch?v=JwwG9sfSATw

[8]  https://www.saffar.me/index.php?act=books&action=view&id=192

[9]  https://www.sdb.gov.sa/ar

[10]  https://www.monshaat.gov.sa/ar

[11]  https://www.youtube.com/@falhmrany

[12]  https://vt.tiktok.com/ZSDtEkHW3/