الاقتصاد الصحي: حيث تتقاطع كفاءة الإنفاق مع كرامة الإنسان
حين نفكر في الصحة لا نراها مجرد غيابٍ للمرض وإنما نراها قدرة متكاملة يعيش بها الإنسان حياته بكرامة ووعي وإنتاج هذا الفهم الواسع لا يمكن أن يتحقق دون عدسة الاقتصاد الصحي التي تنظر إلى الموارد لا باعتبارها أرقاماً جامدة بل باعتبارها أدوات لخدمة الحياة وكرامة الإنسان وصون الإنتاج وتحقيق العدالة.
الاقتصاد الصحي لا يبحث عن الربح بل عن القيمة لا يقف عند التكاليف بل يتقدم نحو الفعالية يوازن بين ما يُنفق وبين ما يُحقق من أثر ويعترف بأن كل قرار صحي هو في جوهره قرار اقتصادي وأن كل إهمال صحي هو عبء يتراكم على المجتمعات والأجيال.
في المجتمعات التي تعي هذا الرابط تبدأ التنمية من العيادات وتنضج في ميادين الإنتاج حين نعتني بصحة الإنسان فإننا نؤسس لسوق عمل أكثر اتزاناً ولموارد بشرية أكثر استقراراً ولأوطان تنفق على التعليم والتطوير بدلاً من أن تُستنزف في علاج ما يمكن منعه.
وفي مشهد التطور العالمي الذي تتسابق فيه الدول لامتلاك مفاتيح التخصصات النادرة نجد أن المملكة العربية السعودية اليوم لا تكتفي بمجرد مواكبة هذا التحول بل تتقدمه بخطى واثقة ومدروسة حيث أدركت باكرًا أن الاقتصاد الصحي ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة لبناء نظام صحي مرن وشامل ومن هنا جاء قرارها بابتعاث الكفاءات الشابة ممن لديهم الشغف والاستعداد لدراسة هذا التخصص الحيوي في أرقى الجامعات العالمية ليس فقط لتحصيل المعرفة بل لصناعتها وتطويعها بما يتناسب مع واقعنا واحتياجاتنا.
وزارة الصحة السعودية لم تكتفِ بتقديم الخدمة العلاجية بل بدأت في صياغة رؤية جديدة تُبنى على مفاهيم علم الاقتصاد الصحي والوقاية المستدامة وتحسين جودة الحياة حيث أصبح للتخطيط المالي الصحي دورٌ محوري في رسم السياسات وتوجيه الموارد بشكل أكثر عدالة وكفاءة كل ذلك من أجل بناء منظومة تضع المواطن في قلب الأولوية لا من حيث تقديم العلاج فقط بل من حيث حمايته قبل أن يمرض ومرافقته في رحلة عيشه الكريم.
ولأن الصحة العامة ليست مجرد إحصاءات بل وعي مجتمعي وسياسة شاملة فإن دعم هذا التخصص يعكس إيمان الدولة بأن بناء العقول لا يقل أهمية عن بناء المستشفيات وأن تطوير السياسات الصحية لا يتحقق إلا عندما نمتلك من أبناء الوطن من يُجيد لغة الأرقام ويفهم سياق القرارات ويوازن بين الممكن والضروري وهكذا نرى اليوم المملكة تنافس كبرى الدول المتقدمة في وضع الاقتصاد الصحي ضمن أولوياتها الوطنية وتؤمن بأن هذا الاستثمار البشري والمعرفي هو أحد أعمدة رؤيتها الطموحة نحو مستقبل أكثر استدامة وعدالة وازدهار.
لم يعد الحديث عن البنية التحتية الصحية كافياً ما لم يُربط بتحسين الكفاءة وعدالة التوزيع وتكامل التمويل وتفعيل أدوات الحوكمة الصحية لأن النظام الذي لا يقيس لا يُدير والنظام الذي لا يُقيم لا يُحسن أما النظام الذي يُنفق دون أثر فهو يعتذر بعد فوات الأوان.
وحين اجتاحت الجائحة أدرك العالم أن الأنظمة الصحية ليست فقط مراكز علاج بل مكونات أمن قومي وأن الكلفة التي تُدفع في تجهيز النظام أقل بكثير من الكلفة التي تُدفع في إنقاذه بعد الانهيار عندها برز الاقتصاد الصحي كعلمٍ يُرشد السياسات وسط الضباب ويُعيد ترتيب الأولويات بلغةٍ يفهمها صانع القرار كما يفهمها المواطن.
في قلب هذه التحولات تتقدم التكنولوجيا كذراع جديدة للاقتصاد الصحي أدوات تحليلية نظم معلومات ذكاء اصطناعي رعاية عن بُعد كل هذه ليست رفاهية بل ضرورة لرفع الكفاءة وتقليل الهدر وتعزيز الوصول بخاصة في البيئات التي تتسع فيها المسافات وتضيق فيها الموارد.
ولأن العدالة الصحية لا تُقاس بعدد المستشفيات بل بقدرة كل فرد على الوصول إلى الخدمة وقت الحاجة فإن بناء اقتصاد صحي عادل يعني إعادة النظر في من يُموِّل ومن يُغطّى ومن يُقرر ومن يُستَبعَد فالهدف ليس فقط تقديم الخدمة بل ضمان ألا يُحرم منها من لا يملك القدرة.
لقد علّمني تخصص الاقتصاد الصحي خلال دراساتي العليا وممارستي في الميدان أن الأرقام الصامتة تحمل صوت الإنسان وأن الميزانيات ليست حسابات حكومية فقط بل قصص بشرية تنتظر تدخلاً وقائيًا وسياسة واعية كل استثمار يُوجَّه للوقاية له أثر لا يُرى إلا في المدى الطويل لكنه أكثر عمقًا من كل دواء يُصرف بعد فوات الأوان.
الاقتصاد الصحي هو تفكير استراتيجي في الإنسان قبل المرض في الإنفاق قبل الأزمة في الوعي قبل التوجيه وهو اليوم علمٌ يتطور بأيدي الكفاءات الوطنية التي تؤمن أن مستقبل الأنظمة الصحية لا يُبنى بالقرارات الآنية بل يُبنى بإرادة تستثمر في العقول وتُوظف الأدوات وتُوازن بين الممكن والواجب.
من هنا تبدأ الرحلة نحو مجتمعٍ لا يضع الصحة على الهامش ولا يراها عبئاً على الميزانية بل يراها استثمارًا في الحاضر ورصيدًا للمستقبل ووسيلة لحماية الإنسان في ضعفه ودعمه في عطائه.
ولأن الاقتصاد الصحي ليس رفاً من رفوف المعرفة بل جوهر من جواهر السيادة فإن امتلاك أدواته وإتقان مساراته لم يعد ترفاً علمياً بل صار ضرورة وطنية وصوتًا ينطق باسم الإنسان.