آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

ترف النقد وموهبة التفرج

سراج علي أبو السعود *

النقد بالمعنى الذي يشير إلى كشف مواطن الضعف وإبرازها لصاحبها ليعالجها يحتاج بالتأكيد علماً وفهماً وذائقة. ولا شك أن النقد ضرورة لكل فن أو مشروع أو مؤسسة. لكن الإشكال يظهر حين يتخذ بعض النقاد النقد غاية لا وسيلة، فيبقون جالسين على منبر القيادة، يصفون ويفككون ويشيرون إلى الخلل، لكنهم لا يمدّون يدهم لإصلاح، ولا يقدّمون مبادرة عملية لتجاوز الخلل الذي رأوه. فيتحول النقد، مهما كان علمياً، إلى هواية آمنة تمنح صاحبها مكانة المتفوق على الآخرين، دون أن يجرؤ هو نفسه على النزول إلى الميدان وصنع أثر حقيقي.

دعني، سيدي القارئ، أصدقك القول: إنني أتوجّس من أولئك البارعين في الحديث والجدل. فقد علمتني التجربة أن كثيراً ممن يملكون فصاحة اللسان وسحر البيان، يفتقرون في الميدان إلى إنجاز حقيقي ملموس. ليس الخلل في جمال البيان ذاته، فهو أداة مهمة، لكن المشكلة حين يتحوّل النقد والجدل إلى وظيفة قائمة بذاتها: أن أتحدث أنا، ويعمل غيري! وكأن دوري هو التشخيص وحده، بينما دور الآخر هو العلاج والتنفيذ. والردّ الجاهز عادة: ”لست صاحب نفوذ ولا قرار، فما شأني؟“ لكن الحقيقة أن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله. فحتى في أضيق دوائرنا نستطيع أن نفعل شيئاً: أن نُصلح في بيوتنا، أن نطوّر أبناءنا، أن نبادر بعمل صغير في جمعية أو حيّ. ولعلنا نرى هذا في كثير من المبادرات حولنا؛ مدرسة تغيّرت ملامحها حين تبرّع بعض الأهالي بجهدهم ووقتهم لتجميل فصولها وتحديث معاملها، أو جمعية خيرية نهضت حين تطوع شاب بتأسيس برنامج تعليمي بسيط، فكان أثره أكبر من مئات المقالات والخطب التي سبقته. إن الفعل مهما كان محدودًا يظل أبلغ من ألف نقد بلا مبادرة. إن النقد الذي لا يرافقه جهد عملي ولو محدوداً لا يعدو أن يكون نوعاً من الترف الخطابي الذي يريح الضمير ولا يغيّر الواقع. والأدهى أن يتحدث ناقد بلغة اليائس من الإصلاح، لأنه يرى أن آماله وما كتب حوله لم يتحقق، مع أنه هو نفسه لم يفعل شيئاً يُذكر. باختصار: يكتفي بالحديث ويترك غيره يعمل ويجتهد.

ما أسهل أن يعتلي المرء عرش النقد فينصّب نفسه آمراً وناهياً! ما أسهل أن يقف خلف الورق ليقول لغيره: افعل واجتهد! وما أسهل أن يلوم ويعاتب ويؤنّب الآخرين على ما يراه قصوراً فيهم، بينما هو نفسه لم يجرّب أن يقدّم شيئاً على الأرض. ولست أبرّئ نفسي من ذلك؛ فكم من مرة وجدتني أكتب أو أنقد، ثم أكتشف أنني لم أُنجز في الواقع ما يكفي لأكون صادقاً مع ما قلت. إنها آفة الناقد حين يحسن القول ويغفل عن الفعل. ينتقد الشعر ولا يكتب بيتاً، ينتقد الفنون ولا يقدّم أثراً، ينتقد المجتمع ولا يخطو خطوة لإصلاح محيطه. والخلاصة: لا قيمة لنقدٍ بلا فعل، ولا جدوى لكلام بلا أثر. فلنبدأ بأنفسنا قبل غيرنا، ولنجعل من نقدنا جسراً إلى العمل، لا ستاراً نتخفّى وراءه. إن أردنا أن ننهض، فلنبدع عملاً ونصنع أثراً، لا أن نكتفي بنقدٍ ونوم.