آخر تحديث: 18 / 10 / 2025م - 8:33 م

مِسك الخِتـَام

هناء العوامي

اسمي مسك، بالأمس حضرت عرس بنت خالتي حيث سمِعت أن متحف المدينة الذي تحوم حوله كثير من الشائعات سوف يتم إقفاله، وبالتالي فقد قررت أن أذهب لزيارته.

منذ مدة طويلة وأنا أنتوي تلك الزيارة، لكنني بقيت أؤجلها ثم أؤجل وأؤجل حتى نسيت تقريباً نيتي لتلك الزيارة.

أريد التحقق من ما يقال عن أحداث غريبة وربما مرعبة حدثت لبعض زوار المتحف.

نعم؟ كيف كان عرس بنت خالتي؟ من الواضح أنني أريد الكلام عن المتحف المريب لا عن العرس، لكن يبدو أنكِ يا صديقتي تهتمين أكثر بالأحداث الاجتماعية، سوف تسألينني تالياً عن أزياء الحضور، بينما أنا أريد الكلام عن المرآة المريبة التي رأتها صديقة بنت خالتي هناك فأغمي عليها...

تلك الحفلة كانت عن بعد، بعض الناس أصبحوا يلجأون لهذه الطريقة لضمان أن موعد الحفل يناسب جميع معارفهم، تعرفين تلك الحفلات حيث معظم الحضور هم صور هولوقرام حية، وحيث تتجنبين المصافحة حذرا من أن تخلطي بين شخص حقيقي وبين صورة هولوقرام، حيث لا يمانع البعض المصافحة الشكلية مع صورة هولوقرام بينما الآخر لا يحبذها.. وحيث ترين من يدخن لكنك لا تشمين رائحة الدخان، قد يمكن عن قرب تمييز صورة الهولوقرام عن الشخص الحقيقي، لكن منظرَ الحشد من بعيد لا يختلف كثيراً إن كان الناس حاضرينَ بشخوصِهم أم أنهم صور هولوقرامية متحركة أرسلت عن بعد، ربما كانوا في قارة أخرى، وقد يختفي بعض الأشخاص فجأة، وقد تطفئين أنتِ البث فيتحول المكان حولكِ فجأة من صالة كبيرة مكتظة مضاءة إلى غرفة صغيرة خالية شبه مظلمة.. يقولون أن مثلَ هذا المشهد لو رآه الناس قبل عدة قرون لكان سبّبَ لهم الرعب، لكنه بالنسبة لنا الآن هو مشهد أكثر من مألوف، ولهذا أدرِك - أنا مسك - أن الرعبَ أمر نسبي، ومثلما أن ما أصبح مألوفا في زمننا قد يكون مخيفا لأسلافنا فربما العكسُ صحيح كذلك، ولهذا فقد قررت زيارَة ذلك المتحف قبل إقفاله، أعرف أن محتوياتَه قديمة جداً جداً جداً.. وربما لهذا هي غير مألوفة إلى حدِّ أن تبث الرعب في قلوب سكان هذا العصر، بالأخص أولئك العائدون من الكوكبين الآخرين، عليَّ أن أتحقق بنفسي، أعرف أن علي أن أتحقق بنفسي.

ولكي تكونَ ملاحظاتي واقعية وموضوعية، سوف أذهب وحدي.

لا أريد أن أتأثر بخوف شخص آخر.

في النهاية فإنه لم يسبِق وأن حدث أي ضرر أو أذى فعلي - فيما أعلم - لأي شخص زار ذلك المتحف.

حتى الآن أنا أعتقد أن قرار إقفاله هو إجحاف بحق المعرفة والتاريخ والوعي البشري. خاصة وهو يمثل تاريخَ أقدم كوكب سكنه البشر وليس فقط دولة يوروأفريقيا الشرقية.

وهكذا - حين لم يعد التأجيل خَياراً - أجّلت كل أمرٍ آخر وذهبت لزيارة المتحف.. أول شيء في الصباح.

والحق أن الزيارة كانت ممتعة بحق.

وكنت محقة في القدوم وحدي.. لقد لاحظت أموراً كثيرة كنت غالباً سأغفِلها لو لم آتِ لوحدي..

الثرثرة مع آخرين أثناء التجول هنا كانت ستجعلكِ تتأثرين بانطباعاتهم ومشاعرهِم حتى لو كانت زائفة.

الإضاءة مثلاً تختلف كثيراً عما ألفناه، ويبدو أن المكانَ يعتمدُ نُظمَ الإضاءَةِ القديمة، كلُ شيءٍ يجعلكِ تشعرين أنكِ سافرتِ في الزمن إلى عصورٍ خَلَت.

وتِلك المرآة.... المرآة ذات السمعة السيئة التي تراها النساء فيغمى عليهن، أين هي؟ ربما أزيلت من المكان، بقيتُ أبحثُ عنها وأبحث...

تَجوّلت في غرف المتحف وأنحائه، لم أستعِن بروبوت إرشادي. وكان زوار المتحف قليلينَ جداً لِدرجةِ أنني كنت حين أراهم من بعيد أشك في أنني قد توهمت وجودهم.. إنهم لا يبدون كأشخاص فعليين ولا كصور هولوقرام، بل يبدو الواحد منهم كشخص رأيته في حلم، رغم أننا في هذا العصر - بالمناسبة - نستطيع التحكم بأحلامنا لكن أغلبنا يختار أن لا يفعل.

ثم فجأة رأيتُها...

رأيتها ففركت عينيّ غيرَ مصدقة!

لا بد وأن تكونَ تلك المرآة هي المقصودة.

ولأولِ مرة منذ خطوت بداخلِ المتحف أشعر بمثل هذه الرهبة.. بل بالخوف..

فعلا هي كبيرة بحجم جسم الإنسان ويحيط بها إطار يبدو وكأنه كان فضياً ثم اسودّ بفعل الزمن، به زخارف لها طابَع مُقبِض ولا تتبينينَ ما هي بالضبط!

ثم إنني قد بحثت في هذا الركن من قبل ولم تكن هنا أي مرآة!

ربما أغفلتُها وحسب، لأن باقي محتويات الغرفة كان مُلفتاً أكثر... حتى أصبحَت تلك المحتويات مألوفة بالنسبة لي حين رأيتها عدةَ مرات، ومن ثَم لاحظتُ وجودَ المرآة، هل توافِقينَني الرأي يا صديقتي؟

هل هذِه كتابة هيروقليفية هناك؟ في العمود خلف المرآة، ليسَت كذلك؟

اقتربتُ من المرآة وتفحصت - قبلَ حتى أن أنظر إلى انعكاسي - نُقوشَ إطارِها، على خلاف ما توقعت، ما يقولونه صحيح، إنها نقوش لا تنتمي لأي حضارة أرضية قديمة نعرفها، لكن من قال أننا نعرف كل شيء؟ ربما بعض الحضارات اندثرت ثم لم تترك لنا ما يكفي لمعرفة فنها أو ثقافتها.. لكن هذه النقوش ليست قبيحة إلى الحد الذي تكلموا عنه، ربما بالفعل تروق لبعض الأذواق، ثم نظرت بحذر وشيء من الريبة إلى صورتي في المرآة، كانت عادية تماما، مع بعض التشوه المتوقع من مرآة ليست مستوية تماما.. بعد عدة دقائق من التأمل بدأت أشعر بالملل... ملل حقيقي عميق وكأنني أدركتُ فجأة أنني قضيت وقتاً في المكان أكثر مما يستحق. استدرت مغادرة، وقبل أن أصل إلى باب الخروج سمعت من ينادي بإسمي..

- ”مسك“..

كان الصوت خافتا كالهمس، أوشكتُ على تجاهله والخروج على كل حال، لكنني أخيراً عُدت لألقيَ نظرةً أخيرة على المرآة، لقد بحثتُ عنها طويلاً وهي تستحق نظرة أخيرة بما أن المتحف سيتم إقفاله، وحيث أنني أخيرا زرته بعد تأجيل لعدد كبير من المرات.

تأملتُ صورَتي في المرآة وأخرجت لها لساني.. وسَرحت مفكرة بأنني لن أرى بنتَ خالتي لبعضِ الوقت، سوف أفتقد ثرثرتها عن الصفائح التكتونية.

ثم غادرت مبتسمة، لكن ما أن رأيت الشمس عند الباب الخارجي حتى تضايقت منها فقررت المكوثَ إلى ما بعد المغيب، أنا أرضية، فلا تحسبي أنني أخاف من الشمس كالعائدينَ من الفضاء.. كل ما في الأمر أن وقت الغروب سيحين قريبا ولا ضيرَ من الاستمتاع بهِ في طريق العودة، ثم إنني قد تعبت من المشي، ثمة مقهى بالقرب من مدخل المتحف اتجهت صوبه.

لكنني أبصرتُ المدخل الداخلي للمتحف فغمرني شوق ما...

وتخيلتُ صوتا في ذهني ينادي باسمي..

- ”مسك“.

هل تخيلته فعلا أم هو حقيقي؟

أشعر أنه حقيقي مع أنه لا يشبه أصوات البشر.

بدون تفكير وجدت نفسي متجهة صوب المرآة إياها..

نظرت في انعكاسي، كان انعاكساً طبيعيا باستثناء....

نظرات العيون!

وكأنها امرأة أخرى..

وكانت عيناها تتكلمان بفصاحة.

بطلاقة..

كانتا تخاطِبانني بلغتي، بل بوضوح أكثر من لغتي.

كانت تقول: ”أنا شش، أنا لست إنسانا ولا أنا روبوت، ولستُ من هذا الكوكب لكنني تركت إرثاً فيه“.

لم أخَف، نظرتُ إلى نفسي بتحدٍ كأنني أقول: ”ثم ماذا؟“.

فجأة وجدت انعكاسي يبتسم.

أقسم أنني صُدمت وكأنني صدقت للتو ما قالَته... كما شعرتُ فجأة وكأن هواء الغرفة من حولي قد ازداد حرارة.

ثم سمعتُ صوتاً يرنّ بداخل ذِهني: ”لا تخافي يا مسك، اسمعي.. إذا وصلتكِ هذِه الرسالة فقد أكونُ قد فنيت منذ زمن بعيد فأنا في النهاية لست خالدة.. نعم أنا أقوى بنية وأطول عمراً منكم معشر البشر كما أن تِقنيتنا متقدمة أكثر و...“.. لم أسمع باقي ثرثرتها التي تحولت في ذهني لطنين كطنين النحل، شعرت بدوار.. وباغتني صداع مفاجئ، وضيق في التنفس، كل الأعراض التي سمِعت عنها لزئرات المتحف السابقات - كلهن نساء؟ - لكنني لم أفقد الوعي، تمالكت ما بقيَ مِن قوتي وخطوتُ خارج المتحف حتى رأيت ضوء الشمس الغاربة فاستعدت بعض حيويتي.. جلستُ على مَقعدٍ وجدته ألتقط أنفاسي، ثم دخلت المقهى وطلبت من روبوت المقهى بعض مياه الصودا مع الليمون والكثير من الثلج.

حتى هَدأت وصَفت أفكاري..

هل تخيلتُ ما حَدث؟ لا أعرف، ولا أهتمّ! لكنني بالتأكيد لست نادمة على أنهم سوف يقفلون المتحف.

ولا بأنني قد تمكنت من زيارته قبل ذلك.

كل شيء - إذن - على ما يرام...

أو هكذا أردت أن أصدق.

مسك، يناير 2754 م.