من فناء المدرسة إلى دروب الحياة… تحية للمعلم في يومه العالمي
في كل عام، يأتي الخامس من أكتوبر ليذكّرنا بجميلٍ لا يُنسى، وبأيدٍ حملت رسالة النور وأضاءت لنا دروب الحياة. في هذا اليوم نستحضر صور المعلّمين الأوائل، أولئك الذين كانوا أول أبواب المعرفة وأول من رسم لنا ملامح المستقبل.
أتذكّر نفسي طفلًا في السابعة من عمري، أقف أمام مبنى مدرسي شامخ بنته شركة أرامكو في منطقتي. كان المكان يبدو كمدينة صغيرة، فصول واسعة نظيفة، جدران بيضاء مزينة بالطوب الأزرق، طاولات أنيقة وكراسي مريحة، فناء واسع يضج بالحياة، وتكييف بارد ذو جودة عالية يمنحنا راحة وسط حرّ الصيف. حتى دورات المياه كانت نظيفة إلى درجة تشعرك بالكرامة، كأن المدرسة تقول لكل طالب: ”أنت تستحق الأفضل“.
في تلك البيئة المشرقة، تعلّمت على أيدي معلمين أفاضل من وطني ومن دول عربية، كانوا يحملون رسالة التعليم بإيمان عميق. لم أرَ في حياتي تفانيًا يشبه تفانيهم. كانوا يتسابقون في شرح مواد الرياضيات والعلوم واللغة العربية والقرآن، يزرعون فينا حبّ التعلّم لا الخوف منه. وفي حصص الفنون، كانوا يفتحون لنا فصلًا وكأنك في ورشة الأحلام وأبواب الخيال، أدوات التلوين وملحقاتها لنلوّن أحلامنا ونشكلها بألوان مختلفة زيتيةٍ، شمعيةٍ وخشبيةٍ. وفي حصص الرياضة، كان المعلم المرح يحوّل الفناء إلى معهد رياضي حقيقي، يعلّمنا النظام والانضباط قبل اللياقة، ويَدَعُنا ننطلق بكامل نشاطاتنا الحيوية حتى تُستنفد طاقاتنا من الحركة والنشاط.
كنت أستيقظ كل صباح وكأنني ذاهب في رحلة. المدرسة لم تكن مكانًا للدراسة فحسب، بل كانت عالمًا آخرًا يعلّمنا الانتماء، الانضباط، وحبّ النجاح. وكوني من المتفوّقين، كنت أحظى باهتمام خاص من أساتذتي ومدير المدرسة، ذاك الرجل الذي لا أنساه، الأب الروحي للطلاب والمعلمين، المهاب في حضوره، العادل في قراراته، الصارم مع المشاغبين، والحاني مع المتفوقين. كم كانت لحظات استلام الهدايا محفورة في الذاكرة: ساعات ثمينة، حقائب دبلوماسية سوداء، ميداليات فاخرة تكاد تلمع كالذهب.
لم أستطع يومًا أن أفرّق بين معلم وآخر، فقد كانوا جميعًا أصحاب رسالة، موهوبين في عطائهم، متقنين لعملهم كأنهم يؤدّون أمانة سماوية. رحم الله من غادر منهم هذه الحياة، وأطال عمر من لا يزالون يضيئون دروب الآخرين.
في يوم المعلم العالمي، أقف إجلالًا وتقديرًا لكل معلم عبر في حياتي، وأقول لهم من القلب:
شكرًا لكم… كفيتم ووفيتم، وجزاكم الله عنّا كلَّ خيرٍ.
أنتم من صنعتم أجيالًا، وأثبتم أن التعليم ليس مجرد وظيفة ولا كتبًا وحصصًا، بل هو رسالة إنسانية، وبناء للأخلاق والعقول، وغرس للأمل في قلوب الصغار.
اليوم، ونحن نحتفي بكم، نعلم أن الكلمات لن تفي بحقكم، لكننا نرفع لكم قلوبًا ممتنّة، وذكرياتٍ تبقى حيّةً لا يطويها النسيان. فالمعلّم هو أول شعلة أضاءت الطريق لكل نجاح، وهو الذاكرة الجميلة لكل طالبٍ حمل القلم وكتب اسمه لأول مرة.